فهذه جملة من أصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه.
والأشاعرة يسمّون «الصّفاتيّة» لإثباتهم صفات اللّه تعالى القديمة، ثم افترقوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسّنّة - كالاستواء، والنّزول، والأصبع واليد، والقدم، والصّورة، والجنب، والمجيء - على فرقتين: فرقة تؤوّل جميع ذلك على وجوه محتملة اللّفظ. وفرقة لم يتعرّضوا للتأويل، ولا صاروا إلى التّشبيه، ويقال لهؤلاء «الأشعريّة الأثرية» (a).
فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها: اعتقاد ما يفهم مثله من اللّغة، وثانيها:
السّكوت عنها مطلقا، وثالثها: السّكوت عنها بعد نفي إرادة الظّاهر، ورابعها: حملها على المجاز، وخامسها: حملها على الاشتراك. ولكلّ فريق أدلّة وحجاج تضمّنتها كتب أصول الدّين، ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * * إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [الآيتان ١١٨ - ١١٩ سورة هود]، ﴿فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الآية ١١٣ سورة البقرة].
فصل
اعلم أنّ اللّه سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَاَلْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الآية ٥٦ سورة الذاريات] قال ابن عبّاس وغيره: يعرفون. فخلق تعالى الخلق، وتعرّف إليهم بألسنة الشّرائع المنزّلة، فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ما عرّفهم فيما تعرّف به إليهم.
وقد كان النّاس، قبل إنزال الشّرائع ببعثة الرّسل ﵈ علمهم/ باللّه تعالى إنّما هو بطريق التّنزيه له عن سمات الحدوث، وعن التّركيب، وعن الافتقار، ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق. وهذا التّنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعّداه عقل أصلا.
فلمّا أنزل اللّه شريعته على رسوله محمّد ﷺ، وأكمل دينه، كان سبيل العارف باللّه أن يجمع في معرفته باللّه بين معرفتين: إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلّة العقلية، والأخرى المعرفة التي جاءت بها الإخبارات الإلهية، وأن يردّ علم ذلك إلى اللّه تعالى، ويؤمن به وبكلّ ما جاءت به الشّريعة على الوجه الذي أراده اللّه تعالى، من غير تأويل بفكره، ولا تحكّم فيه برأيه.