«نشعر الشّيخ الجليل - أدام اللّه سلامته - أنّه لمّا كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات، وانساب إلى داره منها الحيّة البتراء وذات القرنين والعقربان الكبير وأبو صوفه، وما حصلوا لنا إلاّ بعد عناء ومشقّة، وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشّيخ - وفّقه اللّه - بالتّقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها، إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها».
فلمّا وقف ابن المدبّر على الرّقعة قلبها، وكتب في ذيلها:«أتاني أمر سيّدنا الوزير - خلّد اللّه نعمته وحرس مدّته - بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك، أنّ الطّلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله في الدّار، والسّلام».
وفي سنة ستّ عشرة خمس مائة أمر الوزير أبو عبد اللّه محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحي وكيله أبا البركات محمد بن عثمان برمّ شعث هذا الجامع، وأن يعمّر بجانبه طاحونا للسّبيل، ويبتاع لها الدّواب، ويتخيّر من الصّالحين السّاكنين بالقرافة من يجعله أمينا عليها، ويطلق له ما يكفيه مع علف الدّواب وجميع المؤن، ويشترط عليه أن يواسي بين الضّعفاء، ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم، ويؤدّي الأمانة فيها (١).
ولم يزل هذا الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو ابن العاص سنة أربع/ وستين وخمس مائة، عند (a) نزول مرّي [Amaury] ملك الفرنج على القاهرة وحصارها، كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب (٢). وكان الذي تولّى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر، وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر، وسئل عن ذلك فقال: لئلا يخطب فيه لبني العبّاس. ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر.
(a) ساقطة من بولاق. (١) كان ذلك في إطار عملية تجديد المشاهد الموجودة بين الجبل والقرافة، حيث يذكر ابن ميسّر في حوادث سنة ٥١٦ هـ/ ١١٢٢ م، أنّه «في ربيع الأوّل أمر المأمون [البطائحي] وكيله الشّيخ أبا البركات محمد بن عثمان أن يتوجّه إلى المساجد التّسعة التي بين الجبل والقرافة، وأوّلها مشهد السّيّدة زينب وآخرها مشهد السّيّدة كلثوم، ويجدّد عمارتها ويصلح ما تهدّم منها، ويجعل على كلّ مشهد لوحا من رخام عليه اسمه وتاريخ تجديده، فمدحه الشّعراء قصائد عند فراغ العمارة». (ابن ميسر: أخبار مصر ٩١؛ ابن دقماق: الانتصار ١٢١: ٤؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا ٨١: ٣، المقفى الكبير ٤٩٣: ٦؛ (Wiet، G.، CIA Egypte II، pp. ١٦٩ - ٧٠. (٢) فيما تقدم ١٤٢: ٢ - ١٤٦.