ثم حضر من الكرك إلى الشّام وجمع العساكر، فخامر على بيبرس معظم جيش مصر وانحلّ أمره، فترك الملك في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وسبع مائة. وطلع الملك النّاصر إلى قلعة الجبل يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، واستولى على ممالك مصر والشّام والحجاز. فأقام في الملك من غير منازع له فيه إلى أن مات بقلعة الجبل في ليلة الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبع مائة، وعمره سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيّام. وله في ولايته الثّالثة مدّة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وعشرين يوما. وجملة إقامته في الملك عن المدد الثّلاث، ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيّام.
ولمّا مات ترك ليلته ومن الغد حتى تمّ الأمر لابنه أبي بكر المنصور في يوم الخميس المذكور. ثم أخذ في جهازه، فوضع في محفّة بعد العشاء الآخرة بساعة، وحمل على بغلين، وأنزل من القلعة إلى الإسطبل السّلطاني. وسار به الأمير ركن الدّين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، والأمير نجم الدّين أيّوب والي القاهرة، والأمير قطلوبغا الذّهبي، وعلم دار أخو طاجار الدّوادار. وعبروا به إلى القاهرة من باب النّصر، وقد غلّقت الحوانيت كلّها، ومنع النّاس من/ الوقوف للنّظر إليه، وقدّام المحفّة شمعة واحدة في يد علم دار. فلمّا دخلوا به من باب النّصر، كان قدّامه مسرجة في يد بيّات (a) وشمعة واحدة، وعبروا به المدرسة المنصوريّة بين القصرين ليدفن عند أبيه الملك المنصور قلاوون.
وكان الأمير علم الدّين سنجر الجاولي، ناظر المارستان، قد جلس ومعه القضاة الأربعة وشيخ الشّيوخ ركن الدّين شيخ خانقاه سرياقوس، والشّيخ ركن الدّين عمر ابن الشّيخ إبراهيم الجعبري. فحطّت المحفّة وأخرج منها، فوضع بجانب الفسقيّة التي بالقبّة، وأمر ابن أبي الطّاهر مغسّل الأموات بتغسيله، فقال: هذا ملك، ولا أنفرد بتغسيله إلاّ أن يقوم أحد منكم ويجرّده على الدّكّة، فإنّي أخشى أن يقال كان معه فصّ أو خاتم أو في عنقه خرزة. فقام قطلوبغا الذّهبي وعلم دار، وجرّداه مع الغاسل من ثيابه. فكان على رأسه قبغ أبيض من قطن بنائه، وعلى بدنه بغلطاق صدر أبيض وسراويل فنزعا، وترك المقيص عليه وغسّل به، ووجد في رجله الموجوعة بخشان مفتوحان. فغسّل من فوق القميص، وكفّن في نصفيّة، وعملت له أخرى طرّاحة ومخدّة، ووضع في تابوت من خشب، وصلّى عليه قاضي القضاة عزّ الدّين عبد العزيز ابن محمد بن جماعة الشّافعي بمن حضر.