للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا، وبقي «الجلب من المماليك» إنّما هم الرّجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاّح سفينة، ووقّاد في تنّور خبّاز، ومحوّل ماء في غيط أشجار ونحو ذلك. واستقرّ رأي النّاصر على أنّ تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشئونهم.

فبدّلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السّلطانية أرذل النّاس وأدناهم، وأخسّهم قدرا وأشحّهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدّنيا وأكثرهم إعراضا عن الدّين. ما فيهم إلاّ من هو أزنى من قرد، وألصّ من فأرة، وأفسد من ذئب، لا جرم أن خربت أرض مصر والشّام - من حيث يصبّ النّيل إلى مجرى الفرات - بسوء إيالة الحكّام، وشدّة عبث الولاة، وسوء تصرّف أولي الأمر، حتى إنّه ما من شهر إلاّ ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فارطه (a).

وبلغت عدّة المماليك السّلطانية في أيّام الملك المنصور قلاوون ستّة آلاف وتسع مائة (b)، فأراد ابنه الأشرف خليل تكميل عدّتها عشرة آلاف مملوك، وجعلهم طوائف: فأفرد طائفتي الأص (c) والجركس وسمّاها «البرجيّة»، لأنّه أسكنها في أبراج بالقلعة، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبع مائة (١). وأفرد جنس الخطا والقبجاق، وأنزلهم بقاعة عرفت بالذّهبيّة والزّمرّدية، وجعل منهم جمدارية وسقاة وسمّاهم «خاصّكيّة»، وعمل البرجيّة سلاحدارية وجمقدارية وجاشنكيرية وأوشاقية.

ثم شغف الملك النّاصر محمد بن قلاوون بجلب المماليك من بلاد أزبك وبلاد توريز وبلاد الرّوم وبغداد، وبعث في طلبهم، وبذل الرّغائب للتّجّار في حملهم إليه، ودفع فيهم الأموال العظيمة، ثم أفاض على من يشتريه منهم أنواع العطاء من عامّة الأصناف دفعة واحدة في يوم واحد، ولم يراع عادة أبيه ومن كان قبله من الملوك في تنقّل المماليك في أطوار الخدم حتى يتأدّب (d) ويتمرّن كما تقدّم، وفي تدريجه من ثلاثة دنانير في الشهر إلى عشرة دنانير، ثم نقله من الجامكيّة إلى وظيفة من وظائف الخدمة، بل اقتضى رأيه أن يملأ أعينهم بالعطاء الكثير دفعة واحدة. فأتاه من المماليك شيء كثير رغبة فيما لديه، حتى كان الأب يبيع ابنه للتاجر الذي يجلبه إلى مصر. وبلغ ثمن المملوك في أيّامه إلى مائة ألف درهم فما دونها، وبلغت نفقات


(a) بولاق: فرطه.
(b) بولاق: وسبع مائة.
(c) بولاق: الأرمن.
(d) بولاق: يتدرب.
(١) انظر فيما يلي ٧٨٠.