قال: فخرجنا إلى الصّحراء، فأوقفنا على النّبات، فلمّا رأيناه قلنا: هذا نبات يعرف بالقنّب.
فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا. ثم عدنا إلى الزّاوية فوجدنا في قلوبنا من السّرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه. فلمّا رآنا الشّيخ على الحالة التي وصفنا أمرنا بصيانة هذا العقار، وأخذ علينا الأيمان ألا نعلم به أحدا من عوامّ النّاس، وأوصانا ألاّ نخفيه عن الفقراء، وقال: إنّ اللّه تعالى قد خصّكم بسرّ هذا الورق، ليذهب بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشّريفة.
قراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم.
قال الشّيخ جعفر: فزرعتها بزاوية الشّيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السّرّ في حياته، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته. وعاش الشّيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته، لم أره يقطع أكلها في كلّ يوم، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة.
وتوفّي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعمل على ضريحه قبّة عظيمة، وأتته النّذور الوافرة من أهل خراسان، وعظّموا قدره وزاروا قبره، واحترموا أصحابه. وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقّار وسره، فاستعملوه.
قال: ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق، حتى ورد إليها صاحب هرمز ومحمد بن محمد صاحب البحرين - وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس - في أيّام الملك الإمام المستنصر باللّه (١)، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستّ مائة، فحملها أصحابهما معهم، وأظهروا للنّاس أكلها. فاشتهرت بالعراق، ووصل خبرها إلى أهل الشّام ومصر والرّوم. فاستعملوها.
قال: وفي هذه السّنة ظهرت الدّراهم ببغداد، وكان النّاس ينفقون القراضة.
وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشّيخ حيدر الأديب محمّد بن عليّ بن الأعمى الدّمشقي في أبيات، وهى:
[الطويل]
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر … معنبرة خضراء مثل الزّبرجد
يعاطيكها ظبيّ من التّرك أغيد … يميس على غصن من البان أملد
فتحسبها في كفّه إذ يديرها … كرقم عذار فوق خدّ مورّد
(١) أي الخليفة العبّاسي المستنصر باللّه، أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر اللّه محمد بن الناصر لدين اللّه أحمد، صاحب المدرسة المستنصرية ببغداد.