والقصبة هي أعظم أسواق مصر. وسمعت/ غير واحد ممّن أدركته من المعمّرين يقول: إنّ القصبة تحتوي على اثني عشر ألف حانوت، كأنّهم يعنون ما بين أوّل الحسينيّة ممّا يلي الرّمل إلى المشهد النّفيسي. ومن اعتبر هذه المسافة اعتبارا جيّدا لا يكاد أن ينكر هذا الخبر.
وقد أدركت هذه المسافة بأسرها عامرة الحوانيت، غاصّة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة، تبهج رؤيتها ويعجب النّاظر هيئتها، ويعجز العادّ عن إحصاء ما فيها من الأنواع، فضلا عن الأشخاص. وسمعت الكافّة ممّن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد ويقولون: يرمى بمصر في كلّ يوم ألف دينار ذهبا على الكيمان والمزابل. يعنون بذلك ما يستعمله اللّبّانون والجبّانون والطّبّاخون من الشّقاف الحمر التي يوضع فيها اللّبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطّعام بحوانيت الطّبّاخين، وما يستعمله بيّاعو الجبن من الخيط والحصر التي تعمل تحت الجبن في الشّقاف وفوقها (a)، وما يستعمله العطّارون من القراطيس والورق القويّ والخيوط التي تشدّ بها القراطيس (b)) المحمول فيها الأدوية وما يستعمله الأبازرة والفانيون من قراطيس الموز والخيط التي يشدّ بها القراطيس (b) الموضوع فيها حوائج الطّعام من الحبوب والأفاويه وغيرها. فإنّ هذه الأصناف المذكورة إذا حملت من الأسواق، وأخذ ما فيها، ألقيت إلى المزابل (١).
ومن أدرك النّاس قبل هذه المحن وأمعن النّظر فيما كانوا عليه من أنواع الحضارة والتّرف، لم يستكثر ما ذكرناه. وقد اختلّ حال القصبة وخرب، وتعطّل أكثر ما تشتمل عليه من الحوانيت بعد ما كانت مع سعتها تضيق بالباعة، فيجلسون على الأرض في طول القصبة بأطباق الخبز وأصناف المعايش، ويقال لهم «أصحاب المقاعد»(٢)، وكلّ قليل يتعرّض الحكّام لمنعهم وإقامتهم من الأسواق، لما يحصل بهم من تضييق الشّوارع وقلّة بيع أرباب الحوانيت. وقد ذهب واللّه ما هناك، ولم يبق إلاّ القليل.
وفي القصبة عدّة أسواق منها ما خرب، ومنها ما هو باق. وسأذكر منها ما يتيسّر إن شاء اللّه.
(a) ساقطة من بولاق. (b-b) ساقطة من بولاق. (١) قارن هذا الوصف بوصف ناصر خسرو لحالة الرخاء في فسطاط مصر في منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. (سفرنامه ١٠٥). (٢) ذكرهم فيما يلي ٣٢٢ باسم «أرباب المقاعد».