فبلغ ذلك مؤتمن الخلافة، فاستشعر الشرّ وخاف على نفسه ولزم القصر، وامتنع من الخروج عنه (a). فأعرض صلاح الدّين/ عن ذلك جملة. وطال الأمد، فظنّ الخصيّ أنّه قد أهمل أمره، وشرع يخرج من القصر، وكانت له منظرة بناها بناحية الخرقانية (١) في بستان، فخرج إليها في جماعة. وبلغ ذلك صلاح الدّين، فأنهض إليه عدّة هدموا عليه وقتلوه في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة سنة أربع وستين وخمس مائة، واحتزّوا رأسه وأتوا بها إلى صلاح الدّين.
فاشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع، فغضب العسكر المصري وثاروا بأجمعهم في سادس عشرينه، وقد انضمّ إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامّة حتى صاروا ما ينيف على خمسين ألفا، وساروا إلى دار الوزارة، وفيها يومئذ ساكنا بها صلاح الدّين، وقد استعدّوا بالأسلحة. فبدر (b) شمس الدّولة فخر الدّين توران شاه أخو صلاح الدّين، وصرخ في عساكر الغزّ، وركب صلاح الدّين وقد اجتمع إليه طوائف من أهله وأقاربه وجميع الغزّ، ورتّبهم. ووقفت الطّائفة الرّيحانية والطّائفة الجيوشية والطّائفة الفرحيّة (c)، وغيرهم من الطّوائف السّودان (d)، ومن انضمّ إليهم بين القصرين.
فدارت الحرب (e) بينهم وبين صلاح الدّين، واشتدّ الأمر وعظم الخطب حتى لم يبق إلاّ هزيمة صلاح الدّين وأصحابه. (f)) فلمّا عاين الغلب (f) أمر توران شاه بالحملة على السّودان، فقتل فيها أحد مقدّميهم، فانكفّ بأسهم قليلا، وعظمت حملة الغزّ عليهم، فانكسروا إلى باب الذّهب ثم إلى باب الزّهومة، وقتل حينئذ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم.
وكان العاضد في هذه الوقعة يشرف من المنظرة، فلمّا رأى أهل القصر كسرة (g) السّودان وعساكر مصر، رموا على الغزّ من أعلى القصر بالنّشّاب والحجارة حتى أنكوا فيهم، وكفّوهم عن القتال وكادوا ينهزمون. فأمر حينئذ صلاح الدّين النّفّاطين بإحراق المنظرة، فأحضر شمس الدّولة النّفّاطين، وأخذوا في تطييب قارورة النّفط وصوّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد.
فخاف العاضد على نفسه، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين، وقال بصوت عال:
«أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدّولة، ويقول دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من
(a) بولاق: منه. (b) بولاق: فبادر. (c) بولاق: الفرنجية. (d) بولاق: السودانية. (e) بولاق وليدن: فثارت الحروب. (f-f) بولاق وليدن: فعند ذلك. (g) بولاق: كسرت. (١) عن الخرقانية (الخاقانية)، انظر فيما تقدم ٥٨٧: ٢ - ٥٨٨.