به للبدويّة محبوبة الآمر، فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن، فلم يجد بدّا من حمله من البستان. فلمّا صار إلى الآمر، أمر بعمله في الهودج.
فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدويّة ومن يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحدّ في الكثرة، حتى قالت البدويّة: هذا الرّجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلّفنا قطّ أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا.
فلمّا قيل له هذا القول عنها قال: ما لي حاجة، بعد الدّعاء للّه بحفظ مكانها وطول حياتها في عزّ، غير ردّ الفسقيّة التي قلعت من داري التي بنيتها/ في أيّامهم من نعمتهم، تردّ إلى مكانها.
فتعجّبت من ذلك، وردّتها عليه، فقيل له: حصلت في حدّ أن خيّرتك البدويّة في جميع المطالب، فنزلت همّتك إلى قطعة حجر! فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى ألاّ تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلّغها اللّه أملها (١).
وكان هذا المكين يتولّى (a) قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر، وبلغ من علوّ همّته وعظم مروءته أنّ سلطان الملوك حيدرة، أخا الوزير المأمون بن البطائحي، لمّا قلّده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمس مائة، وأضاف إليه الأعمال البحرية، ووصل إلى الثّغر، ووصف له الطّبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطّريق إلى (b) أن أحضر حقّا مختوما فكّ عنه، فوجد فيه منديل لطيف مذهّب على مذاف بلّور فيه ثلاثة بيوت، كلّ بيت عليه قبّة ذهب مشبّكة مرصّعة بياقوت وجوهر: بيت دهن بمسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيّب. ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته.
فعند ما أحضره الرّسول، تعجّب المؤتمن والحاضرون من علوّ همّته. فعند ما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه. فكان جواب المؤتمن: قد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا لنظر في قيمته، بل لإظهار هذه الهمّة واذاعتها. وذكر أنّ قيمة هذا المذاف وما عليه خمس مائة دينار.