للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبعد، فإنّ علم التّاريخ من أجلّ العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرّحيل إلى الآخرة عن هذه الدّار، والاطّلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذام الفعال ليرغب عنها أولو النّهى؛ لا جرم أن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة، والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة، وقد صنّف فيه الأئمّة كثيرا، وضمّن الجلّة (a) كتبهم منه شيئا كبيرا.

وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامّتي، وموطن خاصّتي وعامّتي، وجوّي (b) الذي ربّي جناحي في وكره، وعشّ مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره. لا زلت مذ شذوت العلم، وآتاني ربّي الفطانة والفهم، أرغب في معرفة أخبارها، وأحبّ الإشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مساءلة الرّكبان من سكّان ديارها.

/ فقيّدت بخطّي في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قلّ ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزّتها وغرابتها إهاب. إلاّ أنّها ليست بمرتّبة على مثال، ولا مهذّبة بطريقة ما نسج على منوال. فأردت أن ألخّص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم، ولم يبق إلاّ أن يمحو رسمها الفناء والعدم.

وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزّاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسّس ذلك من أعيان الأماثل، والتّنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل؛ وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة وحكما بديعة شريفة، من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخلّ بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطّرفين، وطريق بين بين؛ فلهذا سمّيته كتاب «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار».

وإنّى لأرجو أن يحظى - إن شاء اللّه تعالى - عند الملوك، ولا ينبو عنه طباع العامّيّ والصّعلوك، ويجلّه العالم المنتهي، ويعجب به الطّالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد النّاسك، ولا يمجّه سمع الخليع الفاتك، ويتّخذه أهل الرّفاهة والبطالة (c) سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلّون به على عظيم قدرة اللّه (d) - في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربّنا سبحانه من تنقّل الأمور إلى حال بعد حال.


(a) بولاق: الأجلة.
(b) بولاق: جؤجؤي.
(c) بولاق: أهل البطالة والرفاهية.
(d) بولاق: تعالى.