للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

قال البهوتي: "فإن كان معها -أي الزكاة ونحوها- من ديون الله تعالى دين آدمي بلا رهن، وضاق ماله -أي الميت- اقتسموا التركة بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عليها المال إلا إذا كان به -أي دين الآدمي- رهن، فيقدم الآدمي بدينه من الرهن " (١).

وقال أيضا: "ويبدأ منها -أي الديون- بالمتعلق بعين المال كدين برهن، وأرش جناية برقبة الجاني ونحوه، ثم الديون المرسلة في الذمة سواء كانت الديون لله تعالى كزكاة المال ..... أو كانت لآدمي كالديون من قرض .... فإن ضاق المال تحاصوا " (٢).

أما إذا ضاقت التركة عن الدينين، فننظر في ديون العباد: فإن كانت متعلقة بالعين، أو أخذ عليها رهن ونحوه قُدِّمت على ديون الله، وأما إذا كانت ديون العباد مرسلة غير متعلقة بالذمة، فقد اختلف العلماء في ذلك:

القول الأول: تقديم ديون العباد على ديون الله، فتؤدى ديون العباد، ثم بعد ذلك ديون الله.

وهو مذهب المالكية (٣).


(١) انظر: كشاف القناع ٢/ ٢٤٨.
(٢) انظر: المرجع السابق ٤/ ٣٩٢.
(٣) المدونة ٤/ ٣٦٣، المنتقى شرح الموطأ ٨/ ١٠٨، ١١٥، حاشية الخرشي ٨/ ٤٨٧ - ٤٩٢، حاشية العدوي ٢/ ٢٩٤ - ٣٠١، شرح منح الجليل ٤/ ٦٧٤ - ٦٨٦، الفواكه الدواني ٢/ ٢٢٠ - ٢٢١، مواهب الجليل ٨/ ٥٨٢.
فعند المالكية: يبدأ بما نص الموصي على التبدئة به فيما يجوز له فيه الرجوع، فإن لم ينص على تبدئة بعض على بعض، فإنه يبدأ بالأهم فألاهم، والآكد فالآكد، تقدم أو تأخر، يبدأ بحقوق العبد، ثم بحقوق الله، ثم بالوصايا بالمال تبرعا.
وحقوق العباد المبدأة على حقوق الله عندهم أربعة:
الديون، والتبرعات في المرض، وفك الأسير، وصداق المريض، وهي مرتبة على هذا الترتيب يبدأ أولاً بديون العبد الثابتة ببينته، أو إقرار في الصحة أو المرض لمن لا يتهم عليه وتخرج من رأس المال، أوصى بها أم لا؛ لقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وتقدم ديون العبد على ديون الله؛ لحاجة العبد إلى دينه واستغنائه تعالى عن ذلك.
ثم التبرعات في المرض من هبة، وصدقة، وحبس، ونحو ذلك، وهي بعد ديون الآدمي، ومقدمة على فك الأسير، وما بعده من الوصايا على المشهور في مذهب مالك، ولو وصى بتقديم غيرها عليها فإنه لا يعمل بوصيته؛ لأنها لازمة بالعقد ولا رجوع فيها، ولو عمل بقوله قدموا عليها كذا، أو ابدؤوا بكذا لأدى ذلك إلى إلغائها عند ضيق الثلث عنها، فيتوصل بذلك إلى الرجوع عنها.
ثم فك أسير أوصى به في صحته أو مرضه، إذا لم يكن وجب عليه في حياته، فإن كان وجب عليه بدئ به من رأس المال، أوصى به أو لم يوص؛ لأنه واجب.
ثم صداق مريض تزوج في مرضه، ودخل بالزوجة في مرضه، ومات من مرضه، أوصى به أو لم يوص، فإنه يخرج من ثلثه مقدما على حقوق الله، وبعد فك الأسير؛ لأنه حق للمرأة تقرر لها بالوطء، وإنما أخر عن فك الأسير لما في فك الأسير من تخليصه من الأذى الذي لا يوجد في غيره.
وبعد هذه الحقوق الآدمية تأتي حقوق الله من زكاة، وكفارات، ونذور، وهي مرتبة فيما بينها عند المالكية، حسب أهميتها، وآكدها زكاة المال، ثم زكاة الفطر، ثم كفارة الظهار، والقتل، ثم كفارة اليمين، فكفارة الفطر، فكفارة التأخير، والنذر على التفصيل التالي:
يبدأ أولا بعد الأربعة السابقة بالزكوات التي فرط فيها للأعوام الماضية إذا أوصى بها، سواء في ذلك زكاة العين، والحرث، والماشية، فإن اعترف بها ولم يوص بها أمر ورثته بإخراجها، ولم يجبروا على ذلك، إلا أن يشهدوا في صحته ببقائها في ذمته، فإنها تخرج من رأس المال، كسائر الديون لانتفاء التهمة.
كما أن زكاة الحرث والماشية الحالة تخرج من رأس المال، أوصى بها أو لم يوص بخلاف زكاة العين الحالة، فإنها لا تخرج من رأس المال إلا إذا اعترف بها، وأوصى بإخراجها في صحته أو مرضه فإن لم يوص بها ولم يعترف بحلولها لم تخرج، ويحمل على أنه أخرجها، كما أنه إذا اعترف بحلولها ولم يوص بإخراجها لم يجبر الورثة على إخراجها.
وتأتي بعد زكاة المال زكاة الفطر المفرط فيها إذا أوصى بإخراجها، وأما الحاضرة فتخرج من رأس المال إذا أوصى بها، وإن لم يوص بها لم يجبر الورثة على إخراجها وإنما أخرت زكاة الفطر عن زكاة المال؛ لأن الأولى واجبة بالكتاب، وهذه واجبة بالسنة، والمقطوع به أقوى من المظنون فيقدم عليه.
وفي المرتبة الثالثة: كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ وهما في درجة واحدة لثبوتهما معا بالكتاب، فإن لم يحمل الثلث إلا أحداهما أقرع بينها، وقيل: يتحاصان لتساويهما، وقيل: تقدم كفارة القتل على كفارة الظهار ثم بعد ذلك كفارة اليمين، وأخرت عن كفارتي القتل والظهار وإن كانت الثلاثة واجبة بالكتاب؛ لأنها واجبة على التخيير وهما واجبتان على الترتيب.
وبعد كفارة اليمين: كفارة الفطر في رمضان أخرت عن كفارة اليمين؛ لأنها واجبة بالكتاب، وكفارة الفطر واجبة بالسنة، كما قيل في تقديم زكاة المال على زكاة الفطر، إلا أن هذا التوجيه يقتضى تقديم كفارات الظهار، والقتل، واليمين على زكاة الفطر لوجوبها بالكتاب ووجوب زكاة الفطر بالسنة.
وبعد كفارة الفطر كفارة التفريط في قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر وأخرت عن كفارة الفطر؛ لأن كفارة الفطر ثابتة بالسنة، ومجمع عليها، ولجبر الخلل الواقع في ذات الصوم بإفساده، وكفارة التفريط ثابتة بالاجتهاد، ومختلف فيها بين الفقهاء، ولجبر الخلل في تأخير القضاء فقط.
وبعد كفارة التفريط النذر اللازم في الصحة أو المرض على المشهور إذا أوصى به، كما قال ابن أبي زيد، وقيل: نذر المرض مؤخر عن نذر الصحة؛ لأنه بمنزلة التبرع بالمال في المرض فيعطى حكم الوصية بالمال، أوصى به أم لا، بخلاف نذر الصحة فلا بد من الإيصاء به، ووجه تأخير النذر عن كفارة التفريط: بأن النذر أدخله الموصي على نفسه، والإطعام في كفارة التفريط واجب بنص الكتاب والسنة، فكان أقوى من النذر، والنذر أضعف منه.
ثم يلي النذر الوصية بالمال: الوصية بالجزء الشائع، أو الوصية بمعين، أو الوصية بعدد من النقود.
واختلف في الوصية بالعدد والوصية بالجزء على أقوال ثلاثة كما سبق كما اختلف في اجتماع الوصية بالمال والوصية بالحج الواجب، فقيل: تقدم الوصية بالمال؛ لأن الوصية بالحج مكروهة عند المالكية، والوصية بالمال مستحبة، والمستحبة أولى من المكروه.
وقيل: يتحاصان إذا كان الحج فريضة.
واتفقوا على أن الوصية بالمال كيفما كان مقدمة على حج التطوع، كما تقدم الوصية بمنفعة معين على الوصية برقبته.

<<  <  ج: ص:  >  >>