قالَ أبو عامرٍ: فأُسقِطَ مَا في يدي وقلتُ: ماذا جنيتُ على نفسي؟ إذْ خَرَجَتْ إليَّ جاريةٌ عليها مدرعةٌ من صوفٍ وخمارٍ من صوفٍ قدْ ذهبَ السجودُ بجبهَتِهَا وأنفِهَا واصفرَّ لطولِ القيامِ لونُها وتورَّمتْ قدمَاهَا فقالتْ: أحسنتَ والله يا حادِي قلوبِ العارفين، ومثيرَ أشجانِ غليلِ المحزونين، لا ينسى لكَ هذا المقامَ ربُّ العالمين، يا أبا عامرٍ هَذا الشيخُ مُبتلىً بالسقمِ منذُ عشرينَ سنةً، صلَّى حتَّى أُقعدَ، وبكى حتَّى عَمِيَ وكان يتمنَّاكَ على اللَّه، ويقولُ: حضرتُ مجلسَ أبي عامرٍ البنانيِّ فأحيا مواتَ فكري وطردَ وسَنَ نومي، وإن سمعتُهُ ثانيًا قتلني، فجزاكَ (١) من واعظٍ خيرًا ومتَّعَكَ من حكمتِكَ بما أعطاكَ.
ثمَّ أكبَّتْ على أبيها تُقَبِّل عينيهِ وتبكي وتقولُ: يا أبي يا أبتاه، يا مَنْ أعماه البكاءُ على ذنبِهِ، يا أبي يا أبتاه، يا مَنْ قتلَهُ ذكرُ ربِّهِ، ثُمَّ علا البكاءُ والنحيبُ والاستغفارُ والدعاءُ، وجعلتْ تقولُ: يا أبي يا أبتاه، يا حليفَ الحُرقةِ والبكاءِ، يا أبي يا أبتاه، يا جليسَ الابتهالِ والدُّعاءِ، يا أبي يا أبتاه، يَا صريعَ المُذَكِّرين والخطباءِ، يا أبي يا أبتاه، يا قتيلَ الوعاظِ والحكماءِ.