ثُمَّ إنَّه حَسُنَ حَالُهُ وعبادتُهُ وتَبَتُّلُهُ ورَغِبَ فيه جماعةُ الخُدَّامِ، فأَدْخَلُوهُ في خدمةِ الحَرَمِ، وقدَّمُوهُ عليهم في حِفظِ حواصِلِهِم وأوقافِهِم، ورَأَسَ بينهم رئاسةً جليلةً ودخلَ في جملةِ المُؤذِّنِينَ أصحابِ المعلومِ.
فَلمَّا كَبُرَ وأَسَنَّ نزلَ عنه، ولم يزل بَيْنَ الخُدَّامِ مُعظَّمًا مُحتَرَمًا مشهورًا بِعِفَّةِ اليَدِ واللِّسانِ في إقامةٍ طويلةٍ بينهم، وتَأثَّلَ دُنيا، فكانَ يُرسِلُ ما فضل عنه لإخوتِهِ في بلادِهِم غَرناطةَ بحيثُ إنَّهُ لمَّا تُوُفِّيَ لم يُوجد لَهُ مَا كَانَ يُتَّهَمُ بهِ مِنَ المالِ، وأوقفَ كُتُبَهُ وجعلَ مقرَّهَا في المدرسةِ الشهابيةِ، وأعتقَ عبيدًا وإماءَ وقَدَّمَ لنفسِهِ ذَخِيرةً صالحةً بعتقِهِ خادمَهُ نجيبًا أحدَ خُدَّامِ الحرم (١) بل هو من أميزِهِم عَقلًا ومعرِفَةً ودِيانَةً، وحَصَلَ لهُ بِهِ ذكرٌ جميلٌ، وخيرٌ كثيرٌ غيرُ قليلٍ، وكَانَ أبو عبد الله مُجيدًا صنعةَ الدِّهَانِ والتَّزويقِ، فعملَ في الحَرَمِ مَعَ الدَّهَانين، وأثَّرَ تأثيرًا حَسَنًا، وكَانَ لي مِنهُ نصيبٌ وافرٌ، ووُدٌّ عظيمٌ، ومبادَرَةٌ لِقَضَاءِ حوائجي، حتى كان يحضرُ معنا الدَّرسَ ويرعانا لما كان بينه وبين والدي. مات في سنةِ أربعٍ وخمسينَ وسبعِ مِئَةٍ، عن إحدى وثمانين سنةً، وتبعه المجد (٢) مُلَخِّصًا على جاري عادتِه بالعبارةِ الرشيقةِ والإشارةِ الأنيقةِ، وكذا لخَّصَ شيخُنا ترجمتَه في "دررهِ"(٣).