ومن جملةِ ما رأيتُ منه، أنه: لمَّا قَدِمَ إلى المدينةِ بعد مجاوَرَتِهِ بمكَّةَ في آخرِ عامِ اثنينِ وعشرينَ وسبعِ مِئَةٍ، ووَجَدَ والدِي قد تُوُفِّي، قالَ لي: ما مَنَعَكَ أن تَقُومَ بِوَظَائِفَ والدِكَ؟ فقلتُ له: يا سيِّدي ما بَقِيَ لي رُكْنٌ، ولا مُساعدٌ غيرُ الله تعالى، فقالَ لي: اثبُتْ على وظائِفِ والدِكَ، فأنتَ إنْ شاءَ اللهُ تُعانُ عليها، فقلتُ: الاشتغالُ والأشغالُ يطَّلبُ (١) مادَّةً، وصفاءَ فكرٍ، وقد انكسرَ خاطِرِي، فقال: ألم تكُنْ تَشغَلُ الناسَ بالعربيَّةِ في أيام والدِكَ؟ فقلتُ: بلى، قال: فَدُمْ على ذلك، ومَن جاءكَ يقرأُ شيئًا في الفقه فأقرِئْهُ؛ ولو أن تُصحِّحَ له كتابَهُ، فقبلتُ كلامَهُ وحملتُ نفسي على الاشتغالِ، [وصبرتُ] ولازمتُ حتِّى كانت حَلَقَتِي فوقَ حَلَقَةِ والدي، واشتغلتُ اشتغالًا جيدًا حصَّلتُ في سنتي ما لم يحصلِّه غيري في مدَّةِ عمرِهِ، ثمَّ سافر إلى القدسِ فوافاه بها أبو يعقوبَ، رسولُ صاحبِ المغرب أبي الحسنِ المرينيِّ (٢)، وقد أرسلَ لإقامةِ درسٍ بالمدينةِ، ووظيفةٍ أخرى، فاستشاروه
(١) تحرَّفت في الأصل إلى: يبطل. (٢) تحرفت في الأصل إلى المديني؟ وهو عليُّ بنُ عثمانَ بنِ يعقوبَ، أبو الحسن المرينيُّ، ملك مراكش وفاس، تسلطن بعد وفاة أبيه سنة ٧٣١ هـ، وكان عادلًا شجاعًا، كثبر الجيوش، ذا همَّةٍ عالية في الجهاد ونشر العدل، توفي سنة ٧٥٢ هـ "الدرر الكامنة" ٣/ ٨٥.