للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

الوجه الثالث: أن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندمٍ على ما سلف منه، وعزمٍ منه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة: فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا وبغمّ الحشرجة مغمورًا، فلا إخالُه إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبًا. ولذلك قال من قال: "إن التوبة مقبولة، ما لم يغرغر العبد بنفسه"، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقلَ الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعةً من شروده عن رَبه إلى طاعته، كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب" (١).

الوجه الرابع: أن قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه:

الأول: أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل، ومثل أولاد أيوب ، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الإحياء، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف.

الثاني: أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند الْقُولَنْجُ (٢)، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها، فإذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد.

الثالث: أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [سورة النمل: ٦٢] فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سببا لعدم قبول التوبة، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق، لا يجوز أن يكون مانعا من


(١) جامع البيان: الطبري (٦/ ٥١٥).
(٢) الْقُولَنْجُ: مرض مِعَوِيُّ مُؤْلِمٌ، يَعْسُرُ معه خروج الثُّفْلِ والريح. ينظر: القاموس المحيط: الفيروز آبادي (ص: ٢٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>