من الأصول التي بنى عليها المتكلمين مذهبهم: قياس الغائب على الشاهد، ولا شك أن قياس الغائب على الشاهد تارة يكون حقًا، وتارة يكون باطلا (١).
وفي مثل هذه المسألة يقول بعضهم بمثل هذا القياس، بأن تمثل الملك بصورة بشر ليس موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، مثل انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة، كما تقدم من كلام العز بن عبد السلام.
ومن خلال ما تقدم ذكره من أقوال أهل العلم، واستقراء ما قيل في هذه المسألة، يتبين أن الحق مع أصحاب القول الثاني من أن كيفية التمثل من أمور الغيب التي لا يدركها العقل، فلا ينبغي الخوض في مثل هذه الدقائق، وذلك من وجهين:
الأول: أن القول بأن المراد من تمثل الملك: أن الله تعالى يُفني عن المَلك القدر الزائد، أو يُزيل عنه هذا القدر مع الجسد حيًا، كله من الخوض في أمور الغيب التي لا يجوز للمسلم أن يتكلم فيها إلا بنص من القرآن، وصحيح السنة، أو من آثار الصحابة التي يكون لها حكم الرفع.
وهذا من القول بلا علم الذي نهى الشارع عنه في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [سورة الإسراء: ٣٦]
والواجب على المسلم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة من إثبات تمثل الملك بصورة بشر، من غير الخوض في الكيفية ودقائق الأحوال، والسؤال بـ (لم) و (كيف)؟ ونحو ذلك ..
يقول الإمام أحمد ﵀:"ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها، الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها"(٢).
(١) انظر: بيان تلبيس الجهمية: ابن تيمية (٢/ ٣٢٦). (٢) أصول السنة: الإمام أحمد (ص: ١٨).