يتبين من خلال استقراء ما ذكره أهل العلم من المفسرين في تفسير هذه الآية، من أن الذي قال بأن النهي لا بد من تقييده بما لا تدعو إليه الحاجة هو الشوكاني، والصواب هو ما ذهب إليه أكثر المفسرين من أن الآية بينة بنفسها من أن النهي هو السؤال عن شيء لا تدعو إليه الحاجة، فلا يُقال أن النهي عام في السؤال وهو مخصوص بما لا تدعو إليه الحاجة، وذلك من أوجه:
الأول: سياق الآية الذي دل على ذلك ففي أول الآية نهى الله تعالى عن السؤال، ثم قال: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ فأباحه لهم، فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في عنها ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [سورة المؤمنون: ١٢] يعني آدم، ثم قال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ [سورة المؤمنون: ١٣] أي ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال، فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم، فقد أباح هذا النوع من السؤال (١).
الثاني: مناسبة هذه الآية لما قبلها: وهو أن الله تعالى لما قال: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [سورة المائدة: ٩٩] صار كأنه قيل ما بلغه الرسول فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم (٢).
الثالث: من حيث اللغة: ففي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ
(١) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي (٨/ ٢٣٥)، بتصرف. (٢) انظر: مفاتيح الغيب: الرازي (١٢/ ٤٤٣) وانظر: البحر المحيط: أبو حيان (٨/ ٤٢٠).