من أعظم الآفات التي أفسدت طريقة المتكلمين في العقيدة والشريعة: تحكيم العقول وتأويل النصوص التي لا تُوافق عقولهم، لعدم علمهم بأن النقل الصحيح يوافق العقل السليم، فإذا وجدوا ظاهر الآيات يتعارض مع عقولهم، أولوه وصرفوه عن ظاهره إلى معنى يُخالف الظاهر.
ومن أمثلة ذلك: أنهم حملوا الكذب في قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ على الدنيا، وهذا لا شك أنه خلاف ما عليه جمهور المفسرين، والصواب أن الآية دالة على أن الكذب إنما هو في الآخرة وأن الكفار يكذبون يوم القيامة، لما يلي:
أولا: الآيات الصريحة الدالة على أن الكفار يكذبون يوم القيامة، ومن ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [سورة المؤمنون: ١٠٧] مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [سورة الأنعام: ٢٨].
وقوله تعالى حكاية عنهم ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [سورة الزخرف: ٧٧] وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص (١).
ثانيًا: من حيث السياق: فالله تعالى ذكر الحشر في قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [سورة الأنعام: ٢٤] والحشر كما هو معلوم إنما يكون في الآخرة، فهم كذبوا على أنفسهم بقولهم: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ يوم القيامة.
ثالثًا: دلالة السنة: فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك