بعد التتبع والنظر في أقوال أهل العلم وما ذكره المفسرون في هذه المسألة، يتبين أن الأصل في هذه المسألة يرجع إلى إمام المسلمين وولي أمرهم، بحسب المصحة التي يراها، إن كان الانتصار أفضل أم العفو.
وعليه فالآية تدل على أن الانتصار أفضل من العفو في أحوال، وتدل على أنه مشرع في أحوال إن كان العفو أفضل، وذلك مما يلي:
أولا: فيما يتعلق بالجهاد وقتال الكفار والأذى الجسماني، فإن الانتصار في هذه الحال أفضل من العفو والله أعلم، فإذا نال المسلمين البغي من الكفار فهم ينتصرون بالجهاد؛ كما قال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ الآية [سورة الحج: ٣٩]. في هذا يقول عطاء في تفسير الآية: يعني المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة، وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض، حتى انتصروا ممن ظلمهم (١).
وعن عبد الملك ابن جريج، في قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾ قال: "هذا محمد ﷺ ظلم وبغي عليه وكذب ﴿هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ قال: ينتصر محمد ﷺ بالسيف"(٢).
ثانيًا: فيما يتعلق بالخصومات والنزاعات التي تحصل بين الناس والأذى اللفظي، ففي مثل هذه الحال يكون العفو أفضل من الانتصار، كما يدل عليه سياق الآيات بعدها، فالمنتصر مستوفٍ لحقٍّ جُعل له، والغافر تارك الحق، لكن إذا جُعل له الاستيفاء دخل فيما ذكر من المستجيبين لله تعالى، لكن تارك الحق أفضل من مستوفي الحق، وعلى ذلك حث اللَّه تعالى رسوله بالعفو عن المظلمة وترك الانتصار والمكافأة، وأخبر أنه من عزم الأمور حيث قال: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [سورة الشورى: ٤٣](٣).
(١) انظر: التفسير الوسيط: الواحدي (٤/ ٥٨)، وانظر: معالم التنزيل: البغوي (٧/ ١٩٧)، وانظر: التيسير: أبو حفص النسفي (١٣/ ٢٤٧). (٢) أورده السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٣٥٨)، وعزاه إلى ابن المنذر. (٣) انظر: تأويلات أهل السنة: الماتريدي (٩/ ١٣٣، ١٣٤).