تعددت أقوال أهل العلم في هذه المسألة كما تقدم، وما يترتب عليها من كل قول من الأقوال منها من معاني، والمتأمل فيما ذكره المفسرون يجد أن جميعها مُحتمل، ويُمكن حملها على الآية، إلا أن جميع هذه الأقوال قد تعرضت لتعقبات وإيرادات ترد عليها.
فأما القول الأول: وهو أن قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا﴾ يتعدى بنفسه دون الحاجة إلى حرف جر، قد تعقبه جمع من أهل العلم بأنه لا يجوز أن يكون ﴿شَيْءٍ﴾ مفعول به، عدى إليه ﴿فَرَّطْنَا﴾؛ لأن ﴿فَرَّطْنَا﴾ لا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر، وقد عدى بـ (في) إلى (الكتاب) فلا يتعدى بحرف آخر (١).
قال أبو البقاء: ﴿مِنْ﴾ في قوله تعالى ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ زائدة (٢). و ﴿شَيْءٍ﴾ هنا واقع موقع المصدر. أي: تفريطا. وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا (٣). ونظير ذلك: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [سورة آل عمران: ١٢٠] أي ضررا. وقد ذكرنا له نظائر (٤). ولا يجوز أن يكون ﴿شَيْئًا﴾ مفعولا به، لأن فرطنا لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر، وقد عديت بـ ﴿فِي﴾ إلى ﴿الْكِتَابِ﴾، فلا تتعدى بحرف آخر، ولا يصح أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء، لأن المعنى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا (٥).
(١) انظر: إعراب القرآن العظيم: السنيكي (ص: ٢٥٤)، وانظر: روح المعاني (٨/ ١٤٨). (٢) الصواب أن يقال بأن (من) زائدة للتوكيد، فليس في كتاب الله تعالى شيء زائد لغير معنى أبدا؛ لأن القرآن لفظ ومعنى، ولكن يراد: الزيادة الإعرابية، يعني: زائدا إعرابا، أما معنى فلا. ينظر: تفسير القرآن الكريم (سورة الأنعام): العثيمين (ص: ٢٠٧). (٣) قوله: «يحتوي على ذكر كل شيء صريحا» لم يقل به أحد؛ لأنه مكابرة في الضروريات - يعني: أن الحقائق الضرورية لا يُمكن جهلها، ولا أن يجتهد الإنسان لإثباتها وذلك لضروريتها-. ينظر: الدر المصون: السمين الحلبي (٤/ ٦١٣). (٤) يريد من النظائر: ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿إنهم لن يضروا الله شيئا﴾ [سورة آل عمران: ١٧٦]، وقوله تعالى: ﴿وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا﴾ [سورة المائدة: ٤٢]، ينظر: التبيان: العكبري (١/ ٣١٢، ٤٣٨). (٥) التبيان في إعراب القرآن: العكبري (١/ ٤٩٣).