بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب ﵁، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول ﷺ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (١).
والجواب: إن بعض الرواة تسامح في قوله، "فأنزل الله الآية". وإنما قرأ النبي ﷺ الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ. واستدل بها النبي ﷺ على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم (٢).
ثانيًا: قالوا أن الله تعالى قال في الآية التي بعدها: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [سورة التوبة: ٢٠] وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح أيضا درجة عند الله، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن، فالتعظيم في الدرجة يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل (٣).
والجواب: أن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره قوله ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾. أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ تشريف عظيم لقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ وكذا في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ لدلالته على انحصار الفوز فيهم (٤).
(١) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم: (١٨٧٩)، وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (١١/ ٣٧٩)، والواحدي في أسباب النزول (ص: ٢٤٤)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول: الوادعي (ص: ١٠٦). (٢) انظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي (١٠/ ١٣٧)، وانظر: المفهم: القرطبي (٣/ ٧٢١)، وانظر: تيسير البيان: ابن نور الدين (٣/ ٣٢٢). (٣) انظر: مفاتيح الغيب: الرازي (١٦/ ١٢)، وانظر: روح المعاني: الآلوسي (١٠/ ٢٦٢). (٤) انظر: غرائب القرآن: النيسابوري (٣/ ٤٤٥).