فالنبي ﷺ كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل: ١٢٥] ثم لما لم ينفع، قال له ربه: فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق (١).
وعلى هذا يحمل كلام الزمخشري المتقدم ومن وافقه من أصحاب القول الأول، من أن الإعراض في الآية المراد منه: الإعراض عن دعوة من لا يريد اتباع الحق ممن هو ميؤوس منه، ولا تُرجى منه الهداية (٢).
وعليه فيجوز في هذه الحال أن يكون المراد من الإعراض في الآية: الإعراض عن دعوة من كانت هذه صفته، ويجوز أن يكون المراد من الإعراض: الهجران والعفو والصفح عن من كان معرضا عن ذكر الله. وذلك مما يلي:
أولا: من ذهب إلى أن المراد من الإعراض: الإعراض عن دعوة من كان معرضا عن ذكر الله، يؤيد ما ذهب إليه بعضًا من الأوجه:
الوجه الأول: ما يذكره جماعة من المفسرين بأن الآية نزلت في النضر بن الحارث، أو في الوليد بن المغيرة (٣)، ومعلوم أن مثل هؤلاء ممن تولى وأعرض ولم يرد إلا الحياة الدنيا، يكون الأفضل في حقهم: الإعراض عن دعوتهم، والله أعلم.
الوجه الثاني: مناسبة الآية لما قبلها: وذلك أنه لما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [سورة النجم: ٢٨] أنهم لا غرض لهم في اتباع الحق، وإنما غرضهم ومقصودهم، ما تهواه نفوسهم، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن ذكره، الذي هو الذكر الحكيم، والقرآن العظيم (٤)، فمن كانت هذا حاله فالأولى ترك دعوته بالإعراض عنه.
(١) انظر: مفاتيح الغيب: الرازي (٢٨/ ٢٦٠). (٢) انظر: روح المعاني: الآلوسي (٢٦/ ١٤١). (٣) انظر: الكشف والبيان: الثعلبي (٢٥/ ١٣٢)، وانظر: البحر المحيط: أبو حيان (٢٠/ ٥٦)، وانظر: روح المعاني: الآلوسي (٢٦/ ١٤١). (٤) انظر: تيسير الكريم الرحمن: السعدي (ص: ٨٢٠).