الثاني: أن هذا القول تؤيده الآثار الواردة في شأن العُسرة، وأن المراد من ذلك: غزوة تبوك.
ومن ذلك: ما أخرجه الطبري بسنده عن ابن عباس ﵁، أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة، فقال عمر:" خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده" الأثر (٢).
الثالث: أن هذا القول يؤيده ما ورد في نزول الآية، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن كعب بن مالك ﵁ يحدث حين تخلف عن قصة تبوك: فواللَّه ما أعلم أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا كذبًا، وأنزل اللَّه ﷿ على رسوله ﷺ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (٣).
الرابع: من حيث سياق الآيات ومناسبة الآية لما قبلها: وذلك أنه لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم
(١) انظر: فتح القدير: الشوكاني (٢/ ٤٧١). (٢) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (١٢/ ٥٢)، والحاكم في مستدركه (١/ ٢٦٣)، برقم: (٥٦٦) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وأورده ابن كثير في تفسيره (٤/ ٣٦٣، ٣٦٤). (٣) أخرجه البخاري، كتاب التفسير (سورة براءة)، باب قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾، برقم: (٤٦٧٨)، وأخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، برقم: (٢٧٦٩)، وأورده البغوي في تفسيره (٤/ ١٠٥، ١٠٦)، وابن عطية في تفسيره (٥/ ١٢٦).