والجواب عليه: أن هذا مما لا يُعقل، فكيف يُخبر الله تعالى بأنه فصّل ما حرّم من المأكولات بصيغة الماضي، وقوله حق، ولم تكن الآيات في سورة المائدة قد نزلت حينئذ، ولم تُشكل الآية على الناس وتُثير تساؤلاتهم بالذي فصَّله، مما يدل على أن الذي فصَّله هو في غير آية المائدة، والله أعلم.
وأما الفريق الثاني فقالوا: أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد، خصوصا أن السورة نزلت دفعة واحدة بإجماع المفسرين، فيكون في حكم المقارن (١).
والجواب عليه: أن هذا القدر من التأخير يمنع أن يكون هو المراد، ولا يقتضي المقارنة، وذلك أن سياق الآيات متعدد في موضوعاته، فالله تعالى أخبر في الآية أنه بيَّن وفصّل ما حرم من المأكولات، ثم أمر باجتناب الإثم ظاهره وباطنه فقال: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [سورة الأنعام: ١٢٠] ثم نهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه فقال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [سورة الأنعام: ١٢١] ثم أخبر عن من ﴿كَانَ مَيْتًا﴾ في ظلمات الكفر والمعاصي، ﴿فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ بنور العلم والإيمان والطاعة، ثم أخبر عن الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ [سورة الأنعام: ١٢٣] إلى أن قال بعد عدة مواضيع: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾. فدل هذا على أن المقارنة غير متحققة وخصوصًا مع تخلل هذه المواضيع بين قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾، والله أعلم.
ولعل الصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه بعض المفسرين وهو: أن الله قد بين لهم، من قبل، ما حرمه عليهم من المأكولات، بوحي غير القرآن (٢)، كالسنة النبوية.
(١) انظر: مفاتيح الغيب: الرازي (١٣/ ١٢٩)، وانظر: اللباب: ابن عادل الحنبلي (٨/ ٤٠١). (٢) انظر: حاشية الشهاب: الخفاجي (٤/ ١١٨)، وانظر: روح البيان: إسماعيل حقي (٣/ ٩٣)، وانظر: التحرير والتنوير: ابن عاشور (٨/ ٣٤).