سابعًا: أن النسخ يقع إذا كان هناك نفي ورفع للحكم المتقدم، بحكم متأخر يُنافي المتقدم، ولا نفي هنا بين الآيتين حتى يُقال بالنسخ.
قال ابن جرير الطبري ﵀ بعد إيراده لأقوال السلف في الآية:"وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: "إنها محكمة غير منسوخة"، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نَفَى خلافه من الأحكام، على ما قد بيَّنا في سائر كتبنا. (١) وليس في قوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾، نَفْي حكمِ قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾. لأن الذي حرَّم الله على الرجل بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، أخذُ ما آتاها منها إذا كان هو المريدَ طلاقَها. وأما الذي أباح له أخذَه منها بقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، فهو إذا كانت هي المريدةَ طلاقَه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع. وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يجز أن يُحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجبُ التسليم لها (٢).
ثامنًا: أن من المفسرين من قال أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ نزلت في الرجل يريد أن يفارق امرأته ويكره أن يصل إليها ما فرض لها من المهر فلا يزال يتبعها بالأذى حتى ترد عليه ما أعطاها لتخلص منه. فنهى الله تعالى عن ذلك، فأما آية الخلع فلا تعلق لها بشيء من ذلك (٣).
فمما تقدم يتبين من الأوجه التي ذكرها أهل العلم من المفسرين ضعف قول من قال بأن الآية ناسخة لآية البقرة، فكُلاً من الآيتين له حكم مُستقل.
(١) يُريد الطبري ﵀ ما قاله في تفسيره في"النسخ" فيما سلف (٣/ ١٢٤)، (٤/ ١٦٣)، (٥/ ٨٧). (٢) جامع البيان: الطبري (٦/ ٥٤٨)، وانظر: أحكام القرآن: الجصاص (٣/ ٤٩). (٣) نواسخ القرآن: ابن الجوزي (ص: ٨١).