مناقشة دليل أصحاب القول الثاني الذين لم يُثبتوا صفة الإحاطة على الحقيقة، بدعوى التشبيه بالأجسام:
اعلم أن لفظ الجسم من الألفاظ التي أحدثها المتكلمون الذين تأثروا بالفلاسفة، ولم تكن مُستعملة عند السلف في صفات الله تعالى.
قال ابن تيمية ﵀: " لفظ «الجسم» و «العرض» و «المتحيز» ونحو ذلك: ألفاظ اصطلاحية، وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك في حق الله، لا بنفي ولا إثبات؛ بل بدعوا أهل الكلام بذلك وذموهم غاية الذم، والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر، ولم يذم أحد من السلف أحدًا بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره، وذموا أيضًا المشبهة الذين يقولون: صفاته كصفات المخلوقين، ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك ما في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق، كما قال الإمام أحمد:«يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم». وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من أن له علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، ويدين ووجهًا وغير ذلك، والجهمية أنكرت ذلك، من المعتزلة وغيرهم" (٢).
ثم يقال لكل من نفى صفة من الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه: ما مقصودك من الجسم؟
فإن قال أنه ذات لا تُشبه أحدا من المخلوقين فلا بأس بإثبات الجسم لأنه تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
وإن قال أنها ذات يلزم منها مشابهة الخلق، فليس بلازم، فكما أننا نُثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه ذوات المخلوقين، فكذلك نُثبت له صفاتًا لا تُشبه صفات المخلوقين، فالقول في
(١) التمهيد: ابن عبد البر (٧/ ١٤٥). (٢) بيان تلبيس الجهمية: ابن تيمية (١/ ٣٧٢).