وكانَ الفَقيهُ أبو جَعفرٍ ﵀ يَقولُ: أداءُ القيمةِ أفضَلُ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى مَنفعةِ الفَقيرِ فإنَّه يَشتَري به لِلحالِ ما يَحتاجُ إليه، والتَّنصيصُ على الحِنطةِ والشَّعيرِ كانَ لأنَّ البِياعاتِ في ذلك الوَقتِ بالمَدينةِ يَكونُ بها، فأمَّا في دِيارِنا فالبِياعاتُ تَجري بالنُّقودِ، وهي أعَزُّ الأَموالِ، فالأداءُ منها أفضَلُ (١).
قالَ أبو بَكرٍ الجَصاصُ ﵀: وأَجازَ أَصحابُنا إِعطاءَ قيمةِ الطَّعامِ؛ لِما ثبَتَ أنَّ المَقصِدَ فيه حُصولُ النَّفعِ للمَساكينِ بهذا القَدرِ من المالِ ويَحصُلُ لهم من النَّفعِ بالقيمةِ مِثلُ حُصولِه بالطَّعامِ … ومع ذلك ليسَ يَمتنِعُ إِطلاقُ الاسمِ على من أَعطى غيرَه دَراهمَ يَشتَري بها ما يَأكلُه ويَلبسُه بأنْ يُقالَ: قد أطعَمَه وكَساه، وإذا كانَ إِطلاقُ ذلك سائِغًا انتَظمَه اللَّفظُ … ألَا تَرى أنَّ حَقيقةَ الإِطعامِ أنْ يُطعِمَه إيَّاه بأنْ يُبِيحَه له فيَأكلَه، ومع ذلك لو ملَّكَه إيَّاه ولم يَأكلْه المِسكينُ وباعَه أجزَأَه، وإنْ لم يَتناوَلْه حَقيقةُ اللَّفظِ بحُصولِ المَقصِدِ في وُصولِ هذا القَدرِ من المالِ إليه، وإنْ لم يُطعِمْه ولم يَنتفِعْ به مِنْ جِهةِ الأكلِ، وكذلك لو أَعطاه كِسوةً فلم يَكتَسِ بها وباعَها، وإنْ لم يَكنْ له كاسيًا بإِعطائِه؛ إذْ كانَ مُوصِّلًا إليه هذا القَدرَ من المالِ بإِعطائِه إيَّاه، ثبَتَ بذلك أنَّه ليسَ المَقصِدُ حُصولَ المَطعَمِ … وأنَّ المَقصِدَ وُصولُه إلى هذا القَدرِ من المالِ، فلا يَختلِفُ حينَئذٍ حُكمُ الدَّراهمِ والطَّعامِ، ألَا تَرى أنَّ النَّبيَّ ﷺ قدَّرَ في صَدقةِ الفِطرِ نِصفَ صاعٍ من بُرٍّ أو صاعًا