وأنا أقتُلُه، قالَ:«فافْعَلْ»، فمَكَث ابنُ مَسلَمةَ أيَّامًا لا يَأكُلُ ولا يَشرَبُ، فدَعاه النَّبيُّ ﷺ فقالَ:«تَرَكتَ الطَّعامَ والشَّرابَ؟»، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، قُلتُ لكَ قَولًا فلا أدري أفِي به أم لا، فقالَ ﷺ:«إنَّما عليكَ بالجَهدِ»، ومَعنى هذا أنَّه ترَك الإصابةَ من اللَّذَّاتِ قبلَ أنْ يَفيَ بما وعَدَ لرَسولِ اللهِ ﷺ، وهكذا يَنبَغي لمَن قصَدَ إلى خِيرٍ أنْ يُقدِّمَه على الإصابةِ من اللَّذَّاتِ، إلا أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ بيَّنَ له أنَّ نَفسَه لا تَتقوَّى إلا بالطَّعامِ والشَّرابِ كما قالَ تَعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الأنبياء: ٨]، وأنَّ عليه الجَهدَ بالوَفاءِ بالوَعدِ لا غيرُ. قالَ: فاجتمَعَ في قَتلِه مُحمدٌ وأُناسٌ من الأوسِ منهم عُبادةُ بنُ بِشرِ بنِ وَقشٍ وأبو نائِلةَ سَلْكانَ بنُ سَلامةَ بنِ وَقشٍ والحارِثُ بنُ أوْسٍ وأبو عَبْسِ بنُ جَبْرٍ، فقالُوا: يا رَسولَ اللهِ نحن نَقتُلُه، فَأْذَنْ لنا فلنَقُلْ؛ فإنَّه لا بدَّ لنا منه، أي: فلنَخدَعْه باستِعمالِ المَعاريضِ وإظهارِ النَّيلِ منكَ، قالَ: فقولوا، فخرَجَ إليه أبو نائِلةَ، وكانَ أخاه من الرَّضاعةِ، فتَحَدَّث معه وتَناشَدَ الأشعارَ، ثم قالَ أبو نائِلةَ: كانَ قُدومُ هذا الرَّجلِ علينا من البِلاءِ -يَعني النَّبيَّ ﷺ، ومُرادُه من ذِكرِ البَلاءِ النِّعمةُ، فالبَلاءُ يُذكَرُ بمَعنى النِّعمةِ، كما يُذكَرُ بمَعنى الشِّدةِ؛ فإنَّه من الابتِلاءِ، وذلك يَكونُ بهما كما قالَت الصَّحابةُ: ابتُلينا بالضَّراءِ فصبَرَنا وابتُلِينا بالسَّرَّاءِ فلم نَصبِرْ، وقيلَ في تَأويلِ قَولِ اللهِ تَعالى: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)﴾ [البقرة: ٤٩]، أي: في إنجائِكم من