وقالَ ابنُ عَبدِ البَرِّ ﵀: حَديثُ رَافِعِ بنِ خَديجٍ ﵁ عن رَسولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ثَمنُ الكَلْبِ خَبيثٌ، ومَهْرُ البَغِيِّ خَبيثٌ، وكَسْبُ الحَجَّامِ خَبيثٌ»(١)، قالَ: هذا الحَديثُ لا يَخلو أنْ يَكونَ مَنسوخًا منه كَسْبُ الحَجَّامِ بحَديثِ أنَسٍ، وابنِ عَبَّاسٍ، والإجماعِ على ذلك، أو يَكونَ على جِهةِ التَّنَزُّهِ، كَما ذَكَرْنا، وليسَ في عَطفِ ثَمنِ الكَلبِ ومَهْرِ البَغِيِّ عليه ما يَتعلَّقُ به في تَحريمِ كَسْبِ الحَجَّامِ؛ لأنَّه قد يُعطَفُ الشَّيءُ على الشَّيءِ وحُكمُه مُختَلِفٌ (٢).
وقالَ الماوَرديُّ ﵀: قالَ الشافِعيُّ ﵀: ولا بَأْسَ بكَسْبِ الحَجَّامِ؛ فإنْ قيلَ: فما مَعنَى نَهْيِ النَّبيِّ السَّائِلَ عن كَسْبِه وإرخاصِه في أنْ يُطعِمَه رَقيقَه وناضِحَهُ؟ قيلَ: لا مَعنَى له إلَّا واحِدٌ، وهو أنَّ لِلمَكاسِبِ حَسَنًا ودَنيئًا، فكانَ كَسْبُ الحَجَّامِ دَنيئًا، فأحَبَّ له تَنزيهَ نَفْسِه عن الدَّناءةِ؛ لِكَثرةِ المَكاسِبِ التي هي أجمَلُ مِنه؛ فلَمَّا زادَه فيه أمَرَه أنْ يَعلِفَه ناضِحَه، ويُطعِمَه رَقيقَه؛ تَنزيهًا لَه، لا تَحريمًا عليه، وقَد حَجَمَ أبو طَيبَةَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ، فأمَرَ له بصاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وأمَرَ أهلَه أنْ يُخفِّفوا عنه مِنْ خَراجِه، ولَو كانَ حَرامًا لَم يُعطِه رَسولُ اللَّهِ ﷺ؛ لأنَّه لا يُعطي إلَّا ما يَحِلُّ إعطاؤُه، ولِآخِذِه مِلْكُه.
وقد رُوِيَ أنَّ رَجُلًا ذا قَرابةٍ لِعُثمانَ قَدِمَ عليه، فسَألَه عن مَعاشِه، فذكرَ
(١) رواه مسلم (١٥٦٨). (٢) «التمهيد» (٢/ ٢٢٦، ٢٢٧)، و «شرح صحيح البخاري» لابن بطال (٦/ ٤٠٩، ٤١٠)، و «البيان والتحصيل» (١٧/ ٢٧٨).