وقال المُوَفَّق عبدُ اللطيف: بُويعَ أَبُو جعْفَر، وسارَ السِّيرةَ الجميلةَ، وعَمَّرَ طرق المعروف الداثرة، وأقام شعائر الدينِ ومنارَ الإسلامِ، وعَمَّرَ بسخَائِه وبَذْلِه.
واجتمعَتِ القلوبُ عَلَى حُبِّه والألسنةٌ عَلَى مدحِه. ولم يَجِدْ أحدٌ من المتعنّتة فِيهِ مَعَابًا قد أطبقوا عَلَيْهِ. وكان جدُّه الناصرُ يُقِّربُه ويُحِبُّه ويُسميه القاضي لعقله وهديه وإنكارِه ما يجدُ من المُنكَرِ. والناسُ معه اليوم فِي بُلَهْنِيَةٍ هنيّة، وعيشةٍ مَرْضيَّةٍ.
وسيرَّ إِلَيْهِ خُوارزم شاه يَلْتَمِسُ منه سَرَاوِيلَ الفُتُوة، فسيَّره إِلَيْهِ مَعَ أموال جمَّةٍ وتُحَفٍ، وفيما سيَّر إِلَيْهِ فرسُ النَّوبة، فسُرَّ بذلك وابتهجَ، وقبَّلَ الأرض مراتٍ شكرا للَّه عَلَى هذه المنزلَة التي رُزِقَها وحُرِمَها أَبُوهُ، ثم إنّه أذْعَنَ بالعبوديَّةِ والطاعةِ.
وقال ابنُ واصل [١] : بَنَى المستنصرُ عَلَى دِجْلةَ من الجانب الشرقيّ ممّا يلي دارَ الخلافةِ مدرسة ما بُنِيَ عَلَى وجه الأرضِ أحسنُ منها ولا أكثُر وقفا، وهي بأربعة مدرّسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها بيمارستانا كبيرا ورتَّبَ فيها مَطْبَخًا للفُقهاءِ، ومزملة للماءِ الباردِ، ورَتَّبَ لبيوتِ الفقهاءِ الحُصُرَ، والبُسُطَ، والفَحْمَ، والأطعمةَ، والوَرَقَ، والحِبْرَ، والزَّيتَ، وغيرَ ذَلِكَ. وللفقيه- بعد ذَلِكَ- فِي الشهر ديناران، ورَتَّبَ لهم حَمَّامًا، ورَتَّبَ لهمِ بالحمَّام قَومَةً. وهذا ما سُبق إِلَيْهِ. وللمدرسةِ شبابيك عَلَى دِجْلة. وللخليفةِ مَنْظَرةٌ مُطِلَّةٌ عَلَى المدرسةِ يَحضُر فيها الخليفةٌ، ويَسَمعُ الدّرسَ [٢] إلى أن قالَ: واستخدمَ عساكرَ عظيمة لم يستخدم
[١] في مفرّج الكروب ٥/ ٣١٦، ٣١٧. [٢] قال الدكتور بشار: ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، وقد كتب الأستاذ الدكتور ناجي معروف