تغشَّتْ بمثلِ اللَّيلِ -ثوبًا- سوادُهُ … أشدُّ سوادًا منه حُزن مُتَيِّمُ (١)
أَمِنْ بعدِ عُمْرٍ بالمحبَّةِ عامرٍ … وَوُدِّ كوقْعِ الطَّلِّ، بلْ هُوَ أَنْعَمُ
تخلِّفُها في وحشةِ الدَّربِ وَحْدَها … تُداري ضَنىً في قلبِها، وتكتِّمُ
وربّاتُ طهر قد أحَطْنَ بوالدٍ … يودِّعْنَهُ، والقلبُ في الصَّدرِ يُكْلَمُ
ذوى منه وجهٌ كان بالنُّور مُشْرقًا … وعينٌ خبا فيها الضِّيا (٢) والتبسُّمُ
تلفَّفْنَ بالصَّبرِ الجميلِ فلا ترى … سوى مَدْمعٍ يَهمي، وثغرٍ يُتمتِمُ (٣)
نماهُنَّ للتقوى حَياءٌ، ووالدٌ … أعزُّ من النُّعمى، وأوفى، وأرحَمُ
وأبناءُ بِرٍّ كالبُدور تحلَّقوا … وأوجهُهُم فيها الضَّراعةُ تُرسَمُ
أحقًّا أبا الإخلاص والفضلِ والتّقى … تُغادِرُنا، والوعدُ في الغيبِ مُبْرَمُ؟
تركتَ لنا بَيْتًا من العِزِّ شامخًا … وذِكْرًا هو الكنزُ المَصونُ وأكرمُ
فأنَّى رَحَلْنا قيل: أبناءُ سيِّدٍ … وأنّى التفتنا قيل: نِعْمَ المعلِّمُ!
رحلتَ، ففي دارِ الخلافةِ (٤) نادبٌ … وفي الهندِ محزونٌ، وفي مصرَ مُغْرَمُ (٥)
وفي المغربِ الأقصى وجومٌ وحسْرةٌ … وفي القُدسِ والأُرْدُنِّ حُزن مُخيِّمُ
وفي الشَّام إخوانٌ همُ الصِّدقُ والوفا … يُضحُّونَ بالأغلى لو أنكَ تسلَمُ
فجيعتُهُم في فقدِكَ اليومَ غُصَّةٌ … تُحدِّرُها عين، ويَزْفِرُها فَمُ
وفي كلِّ صُقْعٍ زُرتَه وسقيتَهُ … علومُكَ نَبْتٌ طيبُ النَّفحِ يفْغَمُ (٦)
(١) يُقال: تيَّمه الهوى: استعبَدَهُ، وذهبَ بعقله.
(٢) إشارة إلى أن الوالد ﵀ فَقد البصر بعينه اليُمنى قُبيل وفاته.
(٣) كُنَّ أخواتي يُحطْنَ بسرير الوالد ﵀، وهُنَّ يدعون ويتلون القرآن همسًا.
(٤) أُقيمت على الفقيد صلاة الغائب في أقطار عدّة، منها: استامبول، دار الخلافة العثمانية.
(٥) الغُرْم: ما ينوبُ الإِنسانَ من ضررٍ بغير جنايةٍ منه، والغرام: العذابُ الدائم الملازِم.
(٦) فَغَمَ الزهرُ: تفتَّح. وفغمتِ الرائحةُ المكانَ: ملأتْه.