إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (١)، أما بعد:
فإنه لا عِلم -بعد العلم بالله وصفاته- أشرف من علم الفقه، المسمَّى بعلم الحلال والحرام، وعلم الشرائع والأحكام، فهو مِن أجلِّ العلوم وأعلاها قدرًا وشأنًا لمن خلُص عمله، وصَفَت نيته، لقول الرسول ﷺ:«من يرد الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدين»(٢).
ولذا اعتنى العلماءُ بهذا العلم بأصوله وفروعه؛ بتدوينه ودراسته، وكان من عمل أئمة الفقهاء ﵏ القياس على نصوص الوحيين عند عدم الدليل، كما هو مبثوث في كتبهم، ولا سيما في كتب الشروح، والخلاف الفقهي في المذهب الواحد، أو الخلاف العالي بين المذاهب في الفقه المقارن.
وبسبب ما نشأ من أنواع المعاملات والتصرفات والوقائع التي لم تكن في زمانهم؛ لجأ تلامذتهم وأتباعهم إلى استخراج ما هو قياس مذهب أئمتهم في أحكام هذه الوقائع، وهو ما يسمى بـ (بناء الفروع على الفروع)، وتفريع المسائل على المسائل، وقد زخرت كتب الفقه بتلك المسائل الفرعية التي يصعب حصرها مما هو واقع ومما هو مفترض، ثم إن ورود بناء المسائل الفقهية بعضها على بعض، وتخريج أحكامها أمر واضح وظاهر في كتب الفقهاء، والناظر في كتب الفقهاء يجد ترابطًا في بناء المسائل مع فروعها وارتباطها كأنها بنيان مرصوص (٣).
والربط بين فروع الفقه العملي ومسائله ثابت من كلام النبي ﷺ؛ لتعليم أصحابه كيفية تخريج المسائل على أصول أخرى لحديث عمر بن الخطاب ﵁، قال: «هَشِشْتُ (٤)، فَقَبَّلتُ وأنا صائم، فجئت رسول الله ﷺ، فقلت: لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قال: وما هو؟ قلت: قَبَّلتُ وأنا صائم، فقال ﷺ: أرأيت لو مضمضت من الماء؟ قلت: إذًا لا يضرّ، قال: فَفِيمَ؟» (٥). يتضح من الدليل السابق توجيه النبي ﵀ لعمر
(١) جزء من خطبة الحاجة، وهي التي كان النبي ﵀ يعلمها أصحابه ﵃، وهي في الابتداء بعامة، ذكرها الإمام أحمد في مسنده (٥/ ٣١٥)، وقد كتب الشيخ الألباني رسالة باسم خطبة الحاجة. (٢) أخرجه البخاري في "صحيحه" (١/ ٢٥) برقم: (٧١) (كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدين) وأخرجه مسلم في "صحيحه" (٣/ ٩٤) برقم: (١٠٣٧) (كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة). (٣) ينظر مقدمة بناء الفروع على الفروع من كتاب كشاف القناع في كتابي الطهارة والصلاة، د. عبد الله العمري ص ٣. (٤) هشش: هش لهذا الأمر يهش هشاشة، إذا فرح به واستبشر، وارتاح له وخف. النهاية في غريب الحديث والأثر (٥/ ٢٦٤). (٥) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (٣/ ٤٢٦) برقم: (١٩٩٩) (كتاب الصوم، باب تمثيل النبي ﷺ قبلة الصائم بالمضمضة منه بالماء)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (٨/ ٣١٣) برقم: (٣٥٤٤) (كتاب الصوم، ذكر الإباحة للرجل الصائم تقبيل امرأته ما لم يكن وراءه شيء يكرهه)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (١/ ١٩٥) برقم: (٩٩) (من حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، جابر بن عبد الله الأنصاري عن عمر ﵃ والحاكم في "مستدركه" (١/ ٤٣١) برقم: (١٥٧٧) (كتاب الصوم، جواز القبلة للصائم)، والنسائي في "الكبرى" (٣/ ٢٩٣) برقم: (٣٠٣٦) (كتاب الصيام، المضمضة للصائم)، وأبو داود في "سننه" (٢/ ٢٨٤) برقم: (٢٣٨٥) (كتاب الصوم، باب القبلة للصائم)، والدارمي في "مسنده" (٢/ ١٠٧٦) برقم: (١٧٦٥) (كتاب الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم)، والبيهقي في "سننه الكبير" (٤/ ٢١٨) برقم: (٨١١٥) (كتاب الصيام، باب من طلع الفجر وفي فيه شيء لفظه وأتم صومه)، وأحمد في "مسنده" (١/ ٥٣) برقم: (١٤٠) (مسند العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، مسند أبي حفص عمر بن الخطاب ﵁، والبزار في "مسنده" (١/ ٣٥٢) برقم: (٢٣٦) (مسند عمر بن الخطاب ﵁، ومما روى جابر بن عبد الله عن عمر عن النبي ﷺ وابن أبي شيبة في "مصنفه" (٦/ ٢٤١) برقم: (٩٤٩٨) (كتاب الصيام، من رخص في القبلة للصائم)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٢/ ٨٩) برقم: (٣٣٦٤) (كتاب الصيام، باب القبلة للصائم). وذكر الحاكم في مستدركه أنه حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. ينظر: المستدرك على الصحيحين (١/ ٤٣١)، تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (٢/ ٤٧).