يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به، فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه في تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- على عادتهم في قولهم:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}(١)، ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس، وقيل: المراد بالغرانيق العلى الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسيق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}(٢) فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته.
وقيل: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات محاكيًا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، قال: وهذا أحسن الوجوه (٣)، ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير "تمنى" بتلا.
وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال قبله: إن هذه الآية نص في مذهبنا في براءة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما نُسِبَ إليه، قال: ومعنى قوله: "في أمنيته" أي في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولًا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري لجلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب على هذا المعنى وحوم عليه، قاله الحافظ في "الفتح"(٤)، ثم قال: وهذه القصة وقعت بمكة قبل الهجرة (٥) اتفاقًا.
(١) سورة فصلت: الآية ٢٦. (٢) سورة النجم: الآية ٢١. (٣) ورده البيضاوي بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: ٥٢]، لأنه أيضًا يحتمله. (ش). (٤) "فتح الباري" (٨/ ٤٣٩ - ٤٤٠). (٥) وفي "الجمل" (٣/ ١٧٣): في رمضان سنة خمس من المبعث، وكانت الهجرة إلى الحبشة في رجبها، وقدوم المهاجرين إلى مكة في شوالها. (ش).