وهنا تنبيهٌ مهم: وهو أنَّه قد يحصل داخل المذهب الواحد الخلاف العريض في كثير من المسائل، والمطالع للكتب المذهبية المعتنية بالخلاف النازل كحاشية ابن عابدين ﵀، ومواهب الجليل للحطَّاب ﵀، والمجموع للنووي ﵀ والإنصاف للمرداوي ﵀ يجد هذا الأمر واضحا جليًّا، وفي هذا نشأت قضيَّة (التَّصحيح المذهبي)(١)، وهي: معرفة المشهور أو الصحيح من الأقوال داخل المذهب؛ ولذا فحكاية اتفاق المذاهب الأربعة لا يعني بالضرورة عدم وجود الخلاف فيها، وإنما يعني: أنَّ هذا القول هو المعتمد عند المذاهب الأربعة.
النوع الثالث: المسائل الخلافيَّة بين المذاهب الأربعة، وهذه المسائل هي عمادُ النظر في الاتساع والضيق بين المذاهب؛ إذ من خلالها يمكن معرفة المذهب الموسِّع أو المضيِّق في الباب.
وأهمُّ هذه المسائل: المسائل التي يقع فيها الانفراد من مذهب واحد، وأُلِّف في ذلك كتب المفردات (٢)؛ وذلك أنَّ اتجاه المذهب من سعة أو ضيق يبرز في المسائل التي يقع الانفراد فيها.
(١) بحث قضيَّة التصحيح المذهبي د. عبد الرحمن بن محمد الأهدل في رسالته (التصحيح الفقهي المذهبي -تصحيح المذهب الحنبلي نموذجًا-)، وبيَّن أنَّ التعريف الأقرب للتَّصحيح المذهبي: (تعيين الفقيه المجتهد في مذهب إمامه القول الصحيح في المذهب، وإزالة الخطأ في نسبة القول المعتمد للمذهب، وفي العبارات التي ينبني عليها حكم فقهي). انظر: التصحيح الفقهي المذهبي (١/ ٤٤). (٢) أوسع الناس تأليفًا في المفردات هم الحنابلة، ووجه ذلك - والله أعلم- أنَّ إلكيا الهراسي الشافعي ﵀ ألَّف كتابًا ينتقد فيه مفردات الإمام أحمد، وفي الكتاب: وهمٌ كثيرٌ من جهة نسبة القول إلى الإمام أحمد، وكذا فإن إلكيا الهراسي لم يُدخل مذهب مالك في الخلاف، ولأجل هذا تتابع الحنابلة في الرد عليه وفي التأليف في المفردات، وممن ألَّف في ذلك: ابن عقيل، وابن الزاغوني، وعبد الوهاب الشيرازي، وابن هبيرة، وأبو يعلى الصغير، وغلام ابن المني، وابن قاضي الجبل، وابن عبد الهادي ﵏. وأوعب من ألَّف في المفردات هو المقدسي في النظم المفيد، وقد شرحه البهوتي في المنح الشافيات. انظر: مقدمة المفردات لابن الزاغوني (ص: ٤٠)، مقدمة كتاب المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد (١/ ١٨، ١٩).