بالتحالف عليهما جميعًا. وهذا الأصل طَرَدَهُ الشافعيَّة في جميع عقود المعاوضات المحضة منها: كالبيع والإجارة، وغير المحضة: كالصداق والخلع والكتابة.
وهذا المعنى لا يردُّه الجمهور بإطلاق؛ ولذا اتفقت المذاهب الأربعة على التحالف عند الاختلاف في ثمن السلعة قبل تلفها كما تقدم ذلك؛ لأنهم رأوا أن كلًّا من الخصمين مدعٍ ومدعًى عليه.
غير أنَّ الحنفيَّة والحنابلة لا يسلِّمون بهذا في غالب صور النزاع، ويقولون بأنَّ أحد الخصمين مدعٍ، والآخر مدعًى عليه -وهو: المنكر-، فأمَّا المدعي فإنه مكلَّف بالبينة، فإن لم تكن له بيِّنة فالقول قول المدعى عليه بيمينه.
وأنبِّه إلى معنى مهم: وهو أنَّ الحنفيَّة والحنابلة وإن كانوا يقرِّرون ما تقدَّم -من أن القول قول المنكر بيمينه- إلا أنه قد يحصل بينهم خلاف عريض في تعيين المدعى عليه من المتنازعين، ولهذا المعنى قد يختلف قولهم فيمن القول قوله بيمينه.
وأمَّا المالكيَّة فلهم ميل ظاهر إلى إعمال قرائن الحال في باب القضاء عمومًا؛ إذ إنهم قدموا جانب أقوى المتداعين سببًا، وذلك بأن يشهد له أصل أو عرف (١)، بشرط أن يدَّعي ما يُشْبه، فإن لم يُشْبه فالقول لخصمه إن أشبه؛ لصيرورته أقوى المتداعيين، وإن لم يُشْبه واحد منهما تحالفا؛ لعدم وجود المرجِّح (٢).
(١) أفرد القرافي ﵀ الفرق الثاني والثلاثون بعد المائتين في فروقه (٤/ ٧٤) في بيان الفرق بين المدعي والمدعى عليه وقال فيه: «ضابط المدعي والمدعى عليه فيه عبارتان للأصحاب، إحداهما: أن المدعي هو أبعد المتداعيين سببًا، والمدعى عليه هو أقرب المتداعيين سببًا، والعبارة الثانية -وهي توضح الأولى-: المدعي من كان قوله على خلاف أصل أو عرف، والمدعى عليه: من كان قوله على وفق أصل أو عرف». وانظر أيضًا: الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام (١/ ١٥). (٢) أفرد ابن فرحون المالكي ﵀ بابًا في (القضاء بالأشبه من قول الخصمين)، وتكلم فيه على جملة من الأمثلة عند المالكيَّة على القضاء بالأشبه. انظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (٢/ ٦٠). والمراد بادعاء ما يُشْبه: أن يدعي ما يوافق قيمة الشيء المتنازع فيه مثلًا، أو تدعي المرأة مهرًا جرت به العادة، ونحو ذلك. جاء عن مالك قوله في الخصومة في قيمة الجارية: «المبتاع يُصدَّق مع يمينه إذا أتى بما يُشْبه أن يكون ثمنًا للجارية يوم ابتاعها … »، التاج والإكليل لمختصر خليل (٦/ ٤٧٠). وليتضح المراد بتمامه أنقل كلام ابن رشد ﵀ في الخصومة بين الزوج وزوجته في قدر الصداق؛ إذ يقول: «اختلافهم مبني على اختلافهم في مفهوم قوله ﵇: «البينِّةُ عَلَى مَن ادَّعَى، واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر» هل ذلك معلل، أو غير معلل؟ فمن قال: معلل قال: يحلف أبدًا أقواهما شبهة، فإن استويا تحالفا وتفاسخا. ومن قال: غير معلل قال: يحلف الزوج؛ لأنها تقر له بالنكاح وجنس الصداق، وتدعي عليه قدرًا زائدًا، فهو مدعى عليه» بداية المجتهد ونهاية المقتصد (٣/ ٥٥)، وقال أيضًا في الاختلاف بين الزوجين في قبض الصداق: «قال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك؛ لأن العرف بالمدينة كان عندهم ألا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق، فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبدًا»، قال ابن رشد: «والقول بأن القول قولها أبدًا أحسن؛ لأنها مدعى عليها»، ثم قال: «ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج» بداية المجتهد ونهاية المقتصد (٣/ ٥٥). فهذا مراد المالكيَّة بادعاء ما يُشْبه، وبالجملة فهذا أصل عظيم يحتاج إليه القاضي، والله أعلم.