في أدلة آحاد المسائل المختلف فيها في الباب، والنظر في أصول المذاهب، يمكن التوصل إلى سبب اختلاف المذاهب الأربعة في السعة والضيق في الباب:
وذلك أنَّ الحنابلة جعلوا فعل النبي ﷺ محمولًا على الوجوب في الجملة بدليل قوله:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(١)، وكذلك حملوا أوامر الشارع في صفة الصلاة على الوجوب أيضًا، ولم يقيِّدوا الواجبات بما جاء في القرآن أو بما جاء في حديث المسيء صلاته (٢)؛ لاحتمال أنَّ النبي لم يعلمه إلا ما أساء فيه.
وأمَّا المالكيَّة والشافعيَّة فإنهم جعلوا العمدة في الأركان حديث الأعرابي المسيء صلاته، فما لم يرد فيه فهو من قبيل المستحبات، وهذا في الجملة؛ إذ قد يقولون بركنية ما لم يرد في الحديث لأسباب أخرى، كما قال الشافعيَّة بوجوب الصلاة على النبي ﷺ مع عدم وروده في الحديث، وأشير هنا: إلى أن المالكيَّة أشد تمسُّكًا بالحديث من الشافعيَّة؛ ولذا كانت الأركان عندهم أقل من الشافعيَّة فلم يقولوا بركنية التشهد الأخير والصلاة على النبي فيه؛ لعدم ذكرها في حديث المسيء صلاته، وقد تقدم ذكر هذا في المسائل الشواهد.
وأمَّا الحنفيَّة فإن سعتهم في الباب راجعة -والله أعلم-إلى مسألتين من مسائل الأصول:
(١) تقدم تخريجه. (٢) الحديث روي بألفاظ متعددة، وأصلُ الحديث متفق عليه عن أبي هريرة ﵁، إذ أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها في (كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر) (١/ ١٥٢) رقم (٧٥٧)، ومسلم في (كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة فِي كل ركعة) (٢/ ١٠) رقم (٣٩٧). وقد قال ابن الرفعة في كفاية النبيه في شرح التنبيه (٣/ ٢٥٣): «هذا الخبر يعرف بخبر المسيء في صلاته».