قد كُنْتُ أتمنَّى لقاءَك، فالحمدُ لله الَّذي أرانيك. فقال لها: وما الَّذي تلتمسينه منّي؟ قالت: ألستَ القائل:
إذا ما أتَتْنا خُلَّةٌ كي تُزيلَها … أبَينا وقلنا الحاجِبيَّةُ أوَّلُ (١)
سنُوليكِ عُرْفًا (٢) إنْ أرَدْتِ وصالنَا … ونحن لتلك الحاجِبيَّةِ أوْصَلُ
قال: بلى. قالت: فهلَّا قلتَ كما قال سيّدُك جميل:
يا رُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها … بالجِدِّ تَخْلِطُهُ بقولِ الهازلِ
فأجَبْتُها بالقولِ بعد تأمُّلٍ … حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقَدْرِ قُلامةٍ … فضلًا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي
قال: فقلتُ: دعي هذا واسقيني ماءً. فقالت: لا والله، وإلَّا ثَكِلْتُ بُثينةَ، لا أسقيك ولو مِتَّ عَطَشًا، فركَضْتُ فرسي، ومَضيتُ أطلبُ الماء، فما وصلتُ إليه إلا بعد جهد كِدت أن أموتَ عَطَشًا (٣).
قال يحيى الأمويّ: لَقِيَتْ امرأةٌ كُثَيِّرًا وكان دَمِيمًا ضئيلًا، فقالت: مَنْ أنت؟ قال: كُثَيِّر. قالت: تسمعُ بالمُعِيدِيِّ خيرٌ من أن تراه. فقال: مَهْ، فأنا الَّذي أقول:
فإنْ أكُ مَعْرُوقَ العِظامِ فإنِّني … إذا ما وَزَنْتِ القومَ بالقومِ أَوْزِنُ
فقالت: كيف تكون بالقوم وازنًا وأنتَ لا تُعرفُ إلا بِعَزَّة؟! فقال: واللهِ لئن قلتِ ذلك، لقد رفع الله بها قَدْرِي، وزَيَّنَ بها شِعْري، وإنها لكما قلتُ:
وما روضةٌ بالحَزْنِ طَيبةُ الثَّرَى … يَمُجُّ النَّدى جَثْحاثُها وعَرارُها (٤)
بأطيبَ من أردانِ عَزَّةَ مَوْهِنًا … وقد أُوقِدَتْ بالمَنْدَلِ الرَّطْبِ نارُها (٥)
من الخَفِرات البيضِ لم تَلْقَ شَقْوةً … وبالحَسَبِ المكنُونِ صافٍ نِجَارُها (٦)
(١) الخُلَّة يعني الخليلة. وقصد بالحاجبية: عزَّة.
(٢) أي: معروفًا.
(٣) تاريخ دمشق ٥٩/ ٣١٦ - ٣١٧، والمنتظم ٧/ ١٠٦ - ١٠٧.
(٤) الحَزْن من الأرض: ما غلُظ، والجَثحاث والعَرار: نَبْتانِ طَيِّبا الرائحة.
(٥) الأردان، جمع رَدْن، وهو القزّ أو الخزّ، والمَوْهن: نحوٌ من نصف الليل، أو بعد ساعة منه، والمَنْدَل: العود الطيب الرائحة.
(٦) الخَفِرات جمع خَفِرة، وهي شديدة الحياء، والنِّجار: الأصل والحَسَب.