وقال الخامس: رب حريصٍ على سكوتك [إذ لا تسكت]، وهو اليوم حريصٌ على كلامك [إذ لا تتكلم].
وقال السادس: يا عظيم الشأن، اضمحلَّ سلطانُك كما اضمحل ظلُّ السحاب، وعَفَت آثارُك كما عفت آثار السَّراب (١).
وقال السابع: يا مَن ضاقت عليه الأرضُ، ليت شعري كيف حالُك فيما احتوى عليك منها.
وقال الثامن: هذا الذي كانت الآذانُ تنصت لكلامه، قد سكت فلْيتكلَّم الآن كلُّ ساكتٍ.
وقال التاسع: سيلحق بك مَن سرَّه موتُك، كما لحِقْتَ بمن سرَّك موتُه.
وقال العاشر: كنتَ تأمرنا بالحركة، فما بالك ساكنًا.
ولما مات الإسكندر عرضوا على ولده إسكندروس المُلك فامتنع، واختار النُّسُك والتعبُّد، فملَّكت اليونان عليها بطليموس.
[فصل في ذكر أرسطاطاليس]
اعلم أن أرسطاطاليس حكيمُ اليونان، ورئيسهم المطلق، وصاحب المنطِق، وكان يُؤدِّب الإسكندر في صغره، وكان الإسكندر يُعظِّمُه ويكاتبه ويشاوره، فكان بمنزلة الوزير عنده.
وقيل للإسكندر: إنك تُعظِّم مؤدِّبَك أكثرَ من تعظيم والدك؟ فقال: لأن أبي كان سببًا لحياتي الفانية، ومؤدبي سببًا لحياتي الباقية. وقال مرة أخرى: أبي كان سببًا في رِقِّي، ومؤدبي سببًا في نُطقي (٢).
وجلس يومًا كاملًا لم يسأَلْه أحد حاجةً، فقال لجلسائه: ما أعد هذا اليومَ من عمري. قيل: ولم؟ قال: لأن الملك لا يَلتذُّ إلا بالجود على السائل وإغاثة الملهوف،
(١) في مروج الذهب ٢/ ٢٥٤ وما بين معكوفين منه: وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب. (٢) الملل والنحل ٢/ ١٣٧.