وسُئل عمّن خرج من الدُّنيا ولم يبق عليه إلَّا مقدارُ مصِّ نواة؟ فقال: المكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم [وهذا الجواب في غاية الجودة](١).
وقال الفتوَّة بالشام، واللِّسان بالعراق، والصِّدق بخراسان.
وقال: الفتوة كفُّ الأذى وبَذْلُ النَّدى.
وقال: قال لي سريٌّ: تكلَّمْ على النَّاس -وكان في قلبي حِشْمةٌ من الكلام عليهم- فرأيتُ رسولَ الله ﷺ في المنام ليلةَ جُمعة، فقال: يا جنيد، تكلَّمْ على النَّاس، فانتبهتُ، وأتيتُ باب سَرِيّ قبل أن أُصبح، فطرقتُه فقال: لم تصدِّقنا حتَّى قيل لك؟ قال: فجلست في الجامع، واجتمع النَّاس فوقف عليَّ غلام فقال: ما معنى قوله ﵊: "اتقوا فِراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله"؟ -[وسنذكر الحديث في آخر ترجمة الجنيد]- فوقع في قلبي أنَّه نصرانيٌّ، فقلت: أنْ تُسلمَ فقد آنَ وقتُ إسلامِك، فأسلم (٢).
وقال: إذا رأيتَ الصُّوفي يعنَى بظاهره فاعلم أن باطِنَه خراب.
وقال: علمُ التوحيد علمٌ تَضْمَحِلُّ فيه الرسومُ، وتندرج تحته العلوم، وقد طُويَ اليوم بساطه، وإنَّما يتكلَّم النَّاسُ في حاشيةٍ من حواشيه.
وقال: أشرفُ كلمةٍ في التوحيد قولُ أبي بكر الصِّدِّيق ﵁: سبحان مَنْ لم يجعلْ لخلقه سبيلًا إلى معرفته إلَّا بالعجز عن معرفته.
وقال الكتَّانيُّ: جرت مسألةٌ في المحبَّة في أيَّام الموسم بمكَّةَ، فتكلَّم فيها الشيوخُ، وكان الجنيد أصغرَهم سنًّا، فقالوا: هاتِ ما عندك فيها يا عراقيّ، فأطرق ودَمعتْ عيناه، ثمَّ رفع رأسه وقال: عبدٌ ذاهبٌ بنفسه، متَّصل بربِّه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرقتْ قلبَه أنوارُ [عظمته و] وحدانيته، شرب بكأس ودِّه من صفاء شربه، فإن تكلَّم فبه، [وإن سكت فبه، وإن تحرَّك فبه،] وإن سكن فبه، فهو بالله ومع الله ولله وفي الله، فبكى القوم وقالوا له: أحسنتَ يا تاجَ العارفين.
(١) حلية الأولياء ١٠/ ٢٥٧، والرسالة القشيرية ص ١٩١، ٢٩٤، ٣٢٣، ٣٢٤، ٣٤٩، وما بين معكوفين من (ف) و (م ١). (٢) الرسالة القشيرية ص ٣٦٠ - ٣٦١، ٣٧٧. والحديث أخرجه الترمذي (٣١٢٧) وقال: هذا حديث غريب.