فأسلم [النصرانيُّ] بعد أن صرخ وغُشِيَ عليه، وصحبَ فتحًا الموصليَّ، وبكى حتى ذهبت إحدى عينيه وعَشِيَ من الأخرى، فقيل له ذات يوم: حدَّثنا عن فتح، فبكى وقال: كان والله كهيئة الروحانيين، قلبه معلَّقٌ بما هنالك، لقد خرجَ ذات يومٍ في عيد ثم رجع، فرأى الدخان يخرج من نواحي المدينة، وشمَّ روائح القُتَار (١)، فبكى وقال: تقرَّب إليك المتقرِّبون بقرابينهم، وأنا أتقرَّبُ إليك بحزني (٢) أيهُّا المحبوب، فليت شعري ما أنت فاعلٌ بي، ثمَّ غشي عليه فأفاق، فأقام أيَّامًا ومات (٣).
[وروى الخطيب بإسناده إلى بشر الحافي قال:](٤) بلغني أنَّ بنتًا لفتح الموصليِّ عريت، فقيل له: ألا تطلبُ من يكسوها؟! فقال: أدعها (٥) لعلَّ الله [أن] يَرى عُريها وصبري عليها، قال: وكان الشتاء إذا جاء جمع عياله، ومدَّ عليهم كساءه ثم قال: اللهمَّ إنَّك أفقرتني وأفقرتَ عيالي، وجوَّعْتَني وجوَّعتَ عيالي، وأعريتَني وأعريتَ عيالي، فبأيِّ وسيلةٍ توسَّلتُ إليك؟ وإنَّما تفعلُ هذا بأوليائك وأحبائك، فهل أنا منهم فأفرح (٦)؟
[وروى ابن جهضم بإسناده إلى إبراهيم بن نوح قال:](٧) رجع فتحٌ إلى أهله بعد العتمة، وكان صائمًا، فقال: عشُّوني، قالوا. ما عندنا شيء، قال: فما بالكم جلوسٌ في الظلمة، قالوا: ما عندنا زيتٌ، فجلس يبكي من الفرح ويقول: إلهي مثلي يُترَك بغير عَشاء ولا سراج، بأيِّ يدٍ كانت مني؟ فما زال يبكي إلى الصباح (٨).
وقال بشر الحافي: كان فتحٌ يتجزَّأ بفَلْسٍ في اليوم، يشتري به نخالةً فيتقوَّتُ بها (٩).
وروى أبو نعيم عنه أنَّه صُدِع، فقال: يا ربّ، ابتليتَني ببلاء الأنبياء، فشُكْرُ هذا أن
(١) القتار: ريحُ الشواء. انظر اللسان (قتر). (٢) في (ب): بحرقي. (٣) صفة الصفوة ٤/ ١٨٧، وكتاب التوابين (١٥٠). (٤) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال بشر الحافي. (٥) في (خ) و (ف): دعها. والمثبت من (ب). (٦) تاريخ بغداد ١٤/ ٣٦١. (٧) ما بين حاصرتين من (ب)، وفي (خ) و (ف): وقال إبراهيم بن نوح. (٨) شعب الإيمان للبيهقي (٩٦٤٦)، وصفة الصفوة ٤/ ١٨٤. (٩) صفة الصفوة ٤/ ١٨٤، وقوله: يتجزأ، يعني: يكتفي. مختار الصحاح (جزأ).