وفَدَ جرير على عبد الملك فاستأذنَه في الإنشاد، فقال له: ألستَ القائلَ في الحجَّاج بن يوسف:
هذا ابنُ يوسفَ فاعْقِلُوا وتَفَهَّمُوا … بَرِحَ الخفاءُ فليس حين تَنَاجي
مَنْ سَدَّ مُطَّلَعَ النِّفاقِ عليكُمُ … أم مَنْ يصولُ كصَوْلَةِ الحجَّاجِ
أم مَنْ يغارُ على النساءِ حفيظةً … إذْ لا يَثقْنَ بغَيرِة الأزواجِ
قال له: يا أمير المؤمنين، إنما الحجَّاج سيفُك، فإذا مدحناه فإنَّما نمدحُك. فأذنَ له فقال:
أتصحُو أم فُؤادُك غيرُ صاحِ … عشيَّةَ همَّ صَحْبُكَ بالرَّوَاحِ
فعَجِلَ عليه عبد الملك وقال: بل فؤادُك يا ابن اللَّخْناء. فقال:
تقول العاذلاتُ علاكَ شَيبٌ … أهذا الشَّيبُ يمنعُني مِراحي (١)
ثِقي بالله ليس له شريكٌ … ومِن عندِ الخليفةِ بالنجاحِ
ألستُم خيرَ مَنْ ركبَ المطايا … وأندى العالمين بُطونَ راحِ
فطرب عبد الملك، وجعل يقلِّبُ كفّيه ويردِّدُ البيت ويقول: مَنْ مَدَحَنا فليَمدَحنا كذا.
وأمرَ له بمئة ناقة برِعائها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين، اجْعَلْها سُودَ الحَدَق. ففعل (٢).
قال المصنف ﵀: فهذه من أبيات طويلة منها:
أغِثْني يا فِداكَ أبي وأمّي … بسَيْبٍ منك إنك ذو ازتياحِ
فإني قد رأيتُ عليَّ حقًّا … زيارتيَ الخليفةَ وامتداحي
سأشكرُ إن رَددتَ عليَّ ريشي … وأنْبَتَّ القَوَادم في جَناحي
أبَحتَ حِمَى تِهامةَ بعد نَجْدٍ … وما شيءٌ حَمَيتَ بمستباحِ
لكم شُمُّ الجبالِ من الرَّوَاسي … وأعظمُ سَيلِ (٣) معتلجِ البِطاحِ
رأى الناسُ البصيرةَ فاستقاموا … وبيَّنَتِ المِراضُ من الصحاحِ
(١) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): براح، والمثبت من "الديوان" ١/ ٨٧. والمِراح: المرح.
(٢) بنحوه في "العقد الفريد" ٢/ ٨٢ - ٨٣. وينظر أيضًا "الأغاني" ٨/ ٦٦ - ٦٧.
(٣) في (ب) و (خ) (والكلام منهما): نسل، والمثبت من "الديوان" ١/ ٩٠.