قال لي شقيقٌ البلخيّ: قد صَحِبْتَني (١) ثلاثين سنة، فما الَّذي استفدتَ منِّي؟ فقلتُ: خصالًا محمودةً، فقال: وما هي؟ فقلت:
أمَّا الأولى: فإنِّي سمعتُ الله يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦] وعلمتُ أنِّي من جملةِ الدوابّ، فلم أشغل نفسي بشيءٍ من رزقي بعد أن تكفَّل به لي ربِّي.
والثانية: أنِّي نظرتُ إلى هذا الخلق، فرأيتُ كلَّ واحدٍ يحبُّ محبوبًا، فهو معه إلى قبره، فإذا وصل إلى قبره فارقَه، فجعلتُ العملَ الصالح محبوبي، فإذا دخلتُ القبر كان معي.
والثالثة: سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١)﴾ [النازعات: ٤٠ - ٤١] فاجتهدتُ في دفعِ الهوى عن نفسي.
والرابعةُ: أنِّي نظرتُ إلى هذا العالم، فرأيتُ أنَّ كلَّ من معه شيءٌ له قَدْرٌ وقيمةٌ حفظَه، ونظرتُ في قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦]، فكُلَّما وقعَ معي شيءٌ له قيمة أنفذته إليه؛ ليبقى لي ذخيرةً عنده.
والخامسة: أنِّي نظرتُ إلى الناس فإذا كلُّ واحدٍ يرجعُ إلى شيءٍ، فبعضُهم إلى المال، وبعضُهم إلى الجاه، وبعضُهم إلى الشرف، وسمعت الله يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] فعملتُ على التقوى حتَّى أكون عند الله كريمًا.
والسادسة: أنِّي نظرتُ إليهم، فرأيتُ بعضَهم يبغضُ بعضًا [ويلمز بعضًا]، فعلمتُ أنَّ أصلَه الحسد، وأنَّ الله تعالى هو القسَّام، وقد قال [الله تعالى:] ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٢] فتركتُ الحسدَ، فاسترحتُ من بغضهم، ورأيتُ بعضَهم يبغي (٢) على بعض، وبعضهم يقاتلُ بعضًا فبحثت عن السبب، فإذا هو حبُّ الدنيا، وسمعتُ الله تعالى يقول: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُمْ﴾ الآية [الحديد: ٢٠]، فتركتُها واسترحت.
(١) في (خ) و (ف): في صحبتي، والمثبت وما سلف بين حاصرتين من (ب). (٢) في (ب): … فاسترحت من عداوة الناس. والسابعة أني نظرت في أمورهم فرأيت بعضهم يبغي.