فقال العمريّ: من هذا؟ قال: الذي آليتَ أن تبولَ عليه، فقال: أَنْتَ أبو دُلَف؟ قال: أنا القاسم. ولم يتكنَّ بحضرة أمير المُؤْمنين، فقال: قلْ بيتًا على هذه القافية والوزن: [من الرمل]
خذ يا قاسم كأسًا مرَّةً … مرَّةً كأسًا يا (١) قاسمُ خذْ
فأطرقَ أبو دُلَف ساعةً، فقال العمري: إنَّ أهل الجبال بأكلهم الحشرات أحذقُ منهم بقول الشِّعر، فرفع أبو دُلَفٍ رأسَه وقال: والله ما عجزتُ عنه، ولقد أجزتُه من حين سمعتُه، وإنما أُطرقُ تعجبًا منك، كيف هجوتَني من غير معرفةٍ ولا سبب، وقد سمعت بذكري على لسان الركبان؟! بل الحسد، ثمَّ قال:[من الرمل]
وأيور الزنج من حِر امِّهِ … مذ برا الله أيورَ الزنج مذْ
فقال له المأمون: مه، فإنَّه العمري، فقال العمري: ما ظننتُ أنَّ الجبال تُخْرِجُ مثله، فقال المأمون: إنَّ بالجبال قومًا يعطون السيف حدَّه، والشعر حظَّه، والمال حقَّه، وإنَّ القاسم وأهله منهم (٢).
وقال العتبي: كان أبو دُلَف مع جلالة قدره وعلوّ منزلته وفضله مولعًا بالغناء، حسنَ الضرب بالعود.
قال المعتصم يومًا لأحمد بن أبي دؤاد: تريدُ أن أسمعكَ غناء صديقك، فقال أَحْمد: القاسم في شجاعته وبراعته وكرمه أعظمُ من هذا، فضرب بستارة، وجعل أبو دُلَفٍ خلف (٣) منها، وقال: غنِّي، فغنَّى، فقال المعتصم لابن أبي دؤاد: ما تقول في هذا؟ ولم يعلم أنَّه القاسم، فقال: أسمعُ غناءً حسنًا، وأميرُ المُؤْمنين أعلمُ منِّي بهذا، فأشار المعتصم إلى من هتكَ الستارة، وإذا بأبي دُلَف، فتحيَّر أَحْمد، وقال: ويحكَ يَا ماجن،
(١) كذا في (خ) و (ف). ولعلها: أيا. في الموضعين. (٢) من قوله: ووقف ببابه رجل فلم يصل إليه … إلى هنا، ليس في (ب). (٣) كذا في (خ) و (ف).