فقال لي مبتدئًا من غير تَروية: لم يَعزمْ أميرُ المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدًا من أهل بيتك بدأَ بك، وكنتَ المقدَّمَ عنده، ولا سيَّما إذا أَنزلتَ نفسَك بحيث أَنزلك أميرُ المؤمنين من نفسه، [فإنْ](١) ترك ذلك فمن غير قِلىً لمكانك، ولكن بالحاجة إليك. فكان ابتداؤه أَحسنَ من رَويَّتي.
وقال سعيدُ بن زياد: لمَّا قدم المأمونُ دمشقَ دخلتُ عليه، وكان عندي خاتَمُ رسولِ الله ﷺ وعليه عِقدٌ [معقودٌ](٢) على كتابٍ كتبه لنا، فأخذه المأمونُ فوضعه على عينه، وبكى وقال: أَشتهي أدْرِي ما تحت هذا الغشاءِ على هذا الخاتَم [فقال له أخوه أبو إسحاق: حُلَّ العَقد] فقال: ما كنت لِأَحُل عِقدًا عَقَده رسولُ اللهِ ﷺ ثم قال: خذه فضعْه على عينك، لعلَّ اللهَ أنْ يشفيَك.
ذِكْرُ وفاةِ المأمون (٣):
قال سعيدٌ العلَّاف القارئ: كنت في صَحَابة المأمونِ في بلاد الرُّوم، فدعاني يومًا، فوجدتُه جالسًا على شاطئ نهرِ البَذَنْدون، وأخوه المعتصمُ جالسٌ عن يمينه وقد دلَّيا أرجلَهما في النَّهر، فقال: يا سعيد، دلِّ رِجلَيك معنا، وانظر هل رأيت ماءً قطُّ أشدَّ بردًا ولا أعذبَ ولا أَصفى منه، قلت: نعم (٤)، قال: فأيُّ شيءٍ يطيب أن يؤكَلَ ويُشربَ على هذا الماء؟ فقلت: أميرُ المؤمنين أعلم، قال: رُطَب الأَزَاد. فبينا هو يقول هذا إذ سمعنا وَقعَ لِجامِ البريد، وإذا البغالُ عليها حقائبُ فيها الظرف فيها رُطَب أَزاد، كأنه قد جُني في تلك الساعة، فقال: ادنُ فكل. فأكلنا جميعًا وشربنا من ذلك الماء، فو اللهِ ما قام منا أحدٌ إلَّا وهو محموم، وكانت منيَّةُ المأمون في تلك العِلَّة، ولم يزل المعتصمُ مريصًا حتَّى دخل العراق.
[وقال العُتْبي:](٥) إنَّما جلسوا على عينٍ يقال لها القشيرة (٦). وقال قوم: أقام مريضًا
(١) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري. (٢) ما بين حاصرتين من (ب) و (ف). (٣) في (خ) و (ف): ذكر وفاته. (٤) أي: نعم ما رأيت مثل هذا قط. انظر تاريخ الطبري ٨/ ٦٤٧. (٥) في (خ) و (ف): وقيل. (٦) في (ب): العصرة بالعربية، وبالرومية الرقة. وانظر مروج الذهب ٧/ ١ - ٢.