وروى ابن أبي الدنيا عن أشياخه قال: لما وقعت الأَكِلَة برجل عروة بعث إليه الوليد الأطبّاء، فأجمعوا على أنَّهم إن لم يَنْشُروها قتلته، فقال: شأنُكم بها، قالوا: نسقيك شيئًا لئلا تُحسَّ بما نصنع بك، قال: لا، شأنُكم بها، فنشروها بالمنشار، فما حرَّك عضوَّا مَن عضو وصبر، فلما رأى القَدَم بأيديهم دعا بها، فقبّلها ثم قال: والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيتُ بها إِلَى مَعصية قطّ، ثم أمر بها فغُسلت وطُيِّبت، ودُفنت فِي مقابر المسلمين، وتمثل بأبيات مَعْن بن أوس بن نَصْر المازنيّ: [من الطويل]
لعَمْرُكَ ما أهويتُ كَفِّي لرِيبةٍ … ولا حَمَلَتْني نحو فاحِشْةٍ رِجلي
ولا قادني سَمعي ولا بَصري لها … ولا دَلَّني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تُصبني مُصيبةٌ … من الدَّهر إلَّا قد أصابتْ فتىً قبلي (١)
[وهذا مَعْن هو الذي دخل على معاوية بن أبي سفيان فأنشده، وكان معاوية يقول: هو أشعر النَّاس.]
ومن شعر مَعْن قوله (٢): [من الطَّويل]
لعَمْرُك ما أدري وإني لأَوجَلُ … على أيِّنا تَعدو المَنِيَّةُ أوَّلُ
وإني أخوك الدَّائمُ العَهْدِ لم أَحُلْ … إنَّ ابْزاك خَصْمٌ أو نَبا بك مَنزِلُ
وإن سُؤتَني يومًا صَفَحتُ إِلَى غدٍ … ليُعْقِبَ يومًا منك آخَرُ مُقبِلُ
وإنّي على أشياءَ منك تَرِيبُني … قديمًا لَذو صَفْحٍ على ذاك مُجْمِلُ
ستَقطع فِي الدُّنيا إذا ما قَطَعْتَني … يمينَك فانظرْ أيَّ كفٍّ تَبدَّلُ
وفي النَّاس إنْ رثَّتْ حبالُك واصِلٌ … وفِي الأرضِ عن دارِ القِلَى مُتَحَوَّلُ
إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاك وجدْتَه … على طَرَفِ الهِجْرانِ إن كُنتَ تَعقِلُ
ولما قال له الأطبّاء: نَسقيك دواءَّ يزول به عقلُك فلا تُحسُّ بشيء قال: إذا زال عقلي فبم أعرف ربي، ثم مدّ رجلَه فقُطعت بالمنشار وهو يسبّح لم يمسكه أحد، وقال: ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ [الكهف: ٦٢] ولم يَدَعْ ورْدَه تلك الليلة.
(١) "حلية الأولياء" ٢/ ١٧٨، و"تاريخ دمشق" ١٧/ ٤٦ (مخطوط).
(٢) الأبيات فِي "الحماسة" ١١٢٦ (بشرح المرزوقي)، وما سلف بين معكوفين من (ص).