وفي الحديث أيضًا دليل على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، إذ لم ينكر ﷺ على الصحابة ما فعلوه مع الأعرابي، بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة. وفيه أيضًا دليل على ما أشار إليه المصنف ﵀ من أن الأرض تطهر بالمكاثرة، وعلى الرفق بالجاهل في التعليم، وعلى الترغيب في التيسير والتنفير عن التعسير، وعلى احترام المساجد وتنزيهها، لأن النبي ﷺ قرَّرهم على الإنكار وإنما أمرهم بالرفق.
٩/ ٢٧ - (وَعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ إذْ جاءَ أعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ في المَسْجِدِ، فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ الله ﷺ: مَهْ مَهْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ"، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إنَّ رَسُولَ الله ﷺ دَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ:"إنَّ هذِهِ المَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيءٍ مِنْ هذَا البَوْلِ وَلا القَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله ﷿ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ"، أوْ كما قَالَ رَسُولُ الله ﷺ. قالَ: فأمَرَ رَجُلًا مِنَ القَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاء فَشنَّهُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (١)، لكِنْ لَيْسَ للبُخارِيِّ فِيهِ:"إن هذِهِ المَساجِدَ" إلى تَمامِ الأمْرِ بتِنْزِيهِهِا. وَقَوْلُهُ:"لا تُزْرمُوهُ" أيْ لا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ). [صحيح]
قوله:(أعرابي) هو الذي يسكن البادية، وقد سبق الخلاف في اسمه.
قوله:(مه مه) اسم فعل مبني على السكون معناه اكفف. قال صاحب المطالع (٢): هي كلمة زجر [قيل](٣) أصلها ما هذا، ثم حذف تخفيفًا، وتقال مكررة ومفردة. ومثله بَهْ بَهْ بالباء الموحدة. وقال يعقوب: هي لتعظيم الأمر كبخ بخ (٤). وقد تنوَّن مع الكسر وينوَّن الأوّل ويكسر الثاني بغير تنوين، وكذا ذكره غير صاحب المطالع (٢).
قوله:(لا تُزْرِمُوهُ) بضم التاء الفوقية وإسكان الزاي بعدها راء أي لا تقطعوه.
(١) البخاري (١/ ٣٢٢ رقم ٢١٩)، و (١/ ٣٢٤ رقم ٢٢١)، و (١٠/ ٤٤٩ رقم ٦٠٢٥)؛ ومسلم (١/ ٢٣٦ رقم ١٠٠/ ٢٨٥)؛ وأحمد في المسند (٣/ ١٩١). (٢) تقدم التعريف بكتاب المطالع وصاحبه في أول أبواب المياه من كتابنا هذا. ص ١٤٣. (٣) زيادة من (جـ). (٤) قال الزمخشري في "الأساس" (١/ ٣٣): بَخٍ لك: كلمةُ مَدْحٍ وإعجابٍ بالشيء وقد تُشَدَّدُ. قال: بخٍ لك. بخ لبحرٍ خضمٌ، وتكرر فيقال: بَخْ بَخْ.