للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن يزيد الأدمي ثنا معن بن عيسى ثنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي الأسود عن الحسن: أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد! فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فان الزاد منها تركها، والعنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي لجراحته، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الأذى مخافة طول البلاء، واحذر هذه الدار الغرارة التي قد زينت بخدعها، وتحلت بآمالها وتشوقت لخطابها، وفتنت بغرورها، فأصبحت كالعروس المحلاة، العيون إليها ناظرة، والقلوب إليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته واغتر وطغى ونسي المعاد، شغل فيها لبه حتى زلت عنه قدمه، وعظمت ندامته، وكبرت حسرته وجمعت عليه سكرات الموت بألمه، حسرات الفوت بغصته، فذهب بكمده، فلم يدرك منها ما طلب، ولم يروح نفسه من التعب، خرج بغير زاد وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسر ما تكون أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه إلى مكروه، فالسار فيها بأهلها غار، والنافع منها غدا ضار، قد وصل الرجاء فيها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء. فسرورها مشوب بالحزن، لا يرجع منها ما ولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت فيستنظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر وعيشها نكد، وابن آدم منها على خطر، إن عقل فهو من النعماء على حظر ومن البلاء على حذر، لو أن الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا لكانت الدنيا فد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر، وفيها واعظ، ما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبيك محمد بمفاتيح خزائنها ولا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، كره أن يخالف على ربه أمره، أو

<<  <  ج: ص:  >  >>