اعلم أنَّ غموض المسألة إنَّما كان وتَنَشَّأَ من تلبس في عبارتها؛ فإذا كشف عن ذلك، اتضح مقصودها، وذلك أن يقال:
هذه الأمور مما يعرفها العقلاء بعقولهم، ويدركون قُبح المقبَّحات، وحُسن المستحسنات بأوائل أذهانهم، وإنما كان ذلك لسر؛ وهو ميل الطباع ونفرتها. وذلك لأن الطباع تميل إلى ما فيه مسرتها، وتنفر عما فيه مضرتها، وهذا لا يختص بالعقلاء؛ فإنَّ البهائم تميل طباعها إلى نفعها، وتنفر عن مضارها.
غيرَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يسمَّى «حكيمًا» لأنَّه ينظر ويتفكر في عاقبة الأمر، ويفرّق بين الخير والشَّرِّ، ومنهم مَنْ لا ينظر في ذلك، فلا يقال له «حكيم». فنقول: هذا الذي تميل إليه الطباع وتنفر عنها، إنَّما هو لأغراض ومقاصد، فمالت الطباع ونفرت لأغراضها.
فالكل متفقون على مراعاة المصلحة والفائدة، وليس كلامنا في هذا الفن، إنَّما كلامنا فيما هو حَسَنٌ وقبيح، وذلك إنَّما هو من تكاليف الشرع وأمره ونهيه.
* فإن قيل: نرى الخلق مطبقين مجمعين من لدن آدم إلى زماننا هذا على حسن الثناء والمدح لمن فعل الحسن، وعلى استحسان مكارم الأخلاق والإنعام والإكرام وإذلال المعروف وابتداء الجميل، ويطبقون على ضدّ ذلك من ذم من أساء وظلم وتعدى وأتى بالقبائح!