اعلم أنَّ جماع العلم في منقول ومعقول، وقَلَّ مَنْ يستكمل الأمرين، وقد كان الشيخ الإمام ﵀ بالدرجة العالية منهما، ثم كان من التحقيق وحسن الفهم بالمحل الأقصى، ثم كان مع ذلك صبوراً على العمل، وقافًا عند المشكلات. كثير المراجعات، لا يمل ذهنه، إذا ألقى فكره نحو مسألة امتد فيها الشهور، لا يسأم ولا يَضجَرُ، إذا نظر مكانًا أمعن النظر، وتأمَّله الزمان الكثير، وتفكر فيه التفكَّرَ البالغ، وبحثَ فيه في الدروس، لا يَقنَعُ بيوم ولا يومين.
تراه إذا فكر كباهِتٍ يُبْصِرُ شَخْصَهُ ولا يُبْصِرُك، ويُحضِرُ فِكَرَهُ فلا يحضرك، يأتي على مأكُوله (١)، وفِكْرُه جائِلٌ في مَعْمُولِه، ويستغرِقُ الكثير من ليله ونهاره، وعينه ناظرة في كبار العلم وصغاره، ويمضي إلى درسه، وما خاطره مشغول به مِلْءُ حِسّه، يتكلم فيه مع الكبير والصغير، لا يستحقر أحدًا، ويكشف كتب الموافقين والمخالفين، مُجِدًّا مجتهداً، ثم لا يَقنَعُ حتى يطلب أعيان المذاهب، ويبحث مع كل شارق وغارب.
وما هو بسالم مع ذلك عن عثرة قلم، أو كبوة فهم، وربما أُتي الأذكياء - مع شدة فطنتهم وكثرة تفحصهم - من كلالٍ يَعْتري الأذهان قبل استكمال النظر، وفتور يعتري الإنسان في أثناء العَمَل، فيَقنَعُ في وسطه بما لا يرضاه في أوله، وهناك كبوة الجواد، وأين السالم منها؟!