الصدقات على فقرائهم، لا أن ينقلها إلى المهاجرين بالمدينة؛ الذين أكثرهم أهل فيء لا أهل صدقة، والله أعلم.
فإن قيل: كيف يجوز حمله على الجزية، وقد روينا أنه قال: أخذه منكم مكان الذرة والشعير، وفي رواية: مكان الصدقة؟.
قلنا: أما قوله: مكان الصدقة، فلم يحفظه إبراهيم بن ميسرة، وخالفه من هو أحفظ منه، وإن ثبت محمول على معنى ما كان يؤخذ منهم باسم الصدقة، كبني تغلب، فإنهم كانوا يعطون الجزية باسم الصدقات.
وأما قوله: مكان الذرة والشعير، فلعل معاذاً ﵁ لو أعسروا بالدنانير أخذ منهم الشعير والحنطة، لأنه أكثر ما عندهم، وإذا جاز أن يترك الدينار لعرض - وهو المعافري - فلعله جاز عنده أن يأخذ منهم طعاماً في الجزية، ثم يقول: الثياب خير للمهاجرين بالمدينة، وأهون عليكم؛ لأنه لا مؤنة كبيرة في حمل الثياب إلى المدينة، والثياب بها أغلى منها باليمن، والحكاية حكاية حال.
يوضح ما ذكرنا أن راويه حدثنا وحدثكم عن معاذ بن جبل من حديث طاووس، ولو ثبت عن معاذ لطاووس أنه قضى في نقل الصدقات نحو مذهبكم، لما خالفه طاووس إن شاء الله، ومعلوم من مذهب طاووس ﵀ أنه كان لا يجيز بيع الصدقات، ويحلف أنه لا يحل، لا قبل القبض ولا بعده. ولو صح ما رويتم عن معاذ بن جبل ﵁ من أخذه الثياب بدل الحنطة والشعير في الصدقة، كان بيع الصدقة قبل أن يقبض» [وانظر أيضاً: ما قاله في السنن الكبرى، وفي الخلافيات (٣٢٢٥)].
وقد قال الشافعي ببعض ذلك في الأم (٣/ ٢٢٣)، وانظر: المعرفة للبيهقي (٩/ ٣٢١)، وانظر أيضاً: الحاوي (٣/ ١٨١).
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في شرح الرسالة (٢/١٩) في الجواب عن حديث معاذ: فإنه وارد في الجزية، وكلامنا في الزكاة، وكذلك قوله: ائتوني بخميس ولبيس، ويبين ذلك أنه نقلها من اليمن إلى المدينة، وعندهم أن الزكاة تعرف [كذا، ولعلها: تفرق] إلى الفقراء في الموضع الذي وجبت فيه، وأيضاً فإن الجزية قد كانت تؤخذ من قوم من العرب باسم الصدقة، فيجوز أن يكون معاذ أراد هذا؛ بدلالة قول النبي ﷺ له:«خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل». اهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (٤/ ١١٩): وهذا لا تقوم به حجة لوجوه: أولها: أنه مرسل، لأن طاووساً لم يدرك معاذاً، ولا ولد إلا بعد موت معاذ. والثاني: أنه لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس عن رسول الله ﷺ، ولا حجة إلا فيما جاء عنه ﵇.
والثالث: أنه ليس فيه أنه قال ذلك في الزكاة؛ فالكذب لا يجوز، وقد يمكن - لو صح - أن يكون قاله لأهل الجزية، وكان يأخذ منهم: الذرة والشعير والعرض: مكان الجزية.
والرابع: أن الدليل على بطلان هذا الخبر ما فيه من قول معاذ: خير لأهل المدينة،