سقت السماء والأنهار والعيون العشر، وما سقي النضح نصف العشر»؛ فمعناه عند جماعة أهل الحجاز وجمهور أهل العراق: إذا بلغ المقدار خمسة أوسق وكان ما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب، فحينئذ يجب فيه العشر ونصف العشر، ولا فرق بين أن يرد هذا في حديثين، أو في حديث واحد، ويدل على صحة هذا المذهب مع استفاضة في أهل العلم أنه لم يأت عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا من التابعين بالمدينة؛ أنه أخذ الصدقة من الخضر والبقول، وكانت عندهم موجودة، فدل على أن ذلك معفو عنه، كما عفي عن الدور والدواب، لأن الأصل العفو، والوجوب طار عليه».
وقال القرافي في نفائس الأصول (٤/ ١٩٠٣): «قوله ﵇: «فيما سقت السماء العشر» يحتمل أن يريد: وجوب الزكاة في كل شيء حتى الخضروات؛ كما قاله أبو حنيفة، ويكون العموم مقصوداً له ﵇ لأنه تعلق بلفظه الدال عليه، وهو صيغة (ما). ويحتمل أنه لم يقصده؛ لأن القاعدة: أن اللفظ إذا سيق لبيان معنى لا يحتج به في غيره، فإن داعية المتكلم مصروفة لما توجه له دون الأمور التي تغايره، وهذا الكلام إنما سيق لبيان المقدار الواجب، دون بيان الواجب فيه، فلا يحتج به على العموم في الواجب فيه، وإذا تعارض الاحتمالان سقط الاستدلال به على وجوب الزكاة في الخضروات» [نقله الزركشي في البحر المحيط (٤/ ٢٠٨)].
وقال ابن دقيق العيد في الإحكام (١/ ٣٧٧): وأبو حنيفة يخالف في زكاة الحرث، ويعلق الزكاة بكل قليل وكثير منه، ويستدل له بقوله ﵇:«فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر، وهذا عام في القليل والكثير.
وأجيب عن هذا: بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج، لا بيان المخرج منه. وهذا فيه قاعدة أصولية، وهو أن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب: أحدها: ما ظهر فيه عدم قصد التعميم، ومثل بهذا الحديث. والثانية: ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب، لقصد تأسيس القواعد. والثالثة: ما لم يظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم، ولا قرينة تدل على عدم التعميم. وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم، فطالب بعضهم بالدليل على ذلك، وهذا الطريق ليس بجيد؛ لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام، ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وذلك لو فهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل عليه لعسر، فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه». [وانظر: البيان والتحصيل (١/ ٣٩٣)، الموافقات (٣/ ١٦٢)، تنبيه الرجل العاقل (١/ ٣٥١)، فتاوى السبكي (٢/ ٢٣٢)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (٥/٤٧)].
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (٤/ ١٦٦): يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما بحمد الله بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: «فيما سقت السماء